كتبت راجانا حمية في “الأخبار”:
«(…) عندنا 40 مريضاً لسنا قادرين على تأمين أنابيب ( lines) لهم، إذا كان هناك في مستشفيات بيروت من هو قادر على استقبال عدد منهم، أكون ممتناً».
شكّل هذا النداء، الذي أطلقه طبيب الكلى ورئيس الطب الباطني في مستشفى المقاصد، الدكتور حسام رباح، آخر جرعة أملٍ يعطيها لمرضى غسيل الكلى لديه، بعدما وجد نفسه عاجزاً عن تأمين جلسات علاجهم، بسبب انقطاع الأنابيب المخصّصة لأجهزة العلاج «bloodlines tubing» منذ يومين. وبالفعل، أتى هذا النداء بحلحلة مؤقتة للمشكلة عبر إرسال بعض المستشفيات هذه المعدات إلى المقاصد لإتمام علاج 40 مريضاً أول من أمس و20 مريضاً أمس… إلا أن الحلول الموقتة لا تعفي من الآتي، إذ يواجه المستشفى خطر تأثير هذا الانقطاع على 127 مريضاً يجرون علاجاتهم داخل مركز غسيل الكلى، من بينهم 4 أطفال.
اليوم، ثمة 60 مريضاً جديداً يتحضرون لجلسات علاجٍ لا يزال تحصيل معداتها رهناً بـ«خبرٍ» يأتي من الشركة التي تزوّد المستشفى بها. وهو خبر لا ينتظره المقاصد وحده وإنما الكثير من مراكز غسل الكلى في المستشفيات التي تستحصل على هذا المستلزم من الشركة نفسها!
أزمة ماكينات 5008
قبل سنواتٍ، عملت الكثير من المستشفيات، ومنها المقاصد، على تحديث ماكينات غسيل الكلى لديها، مستبدلة القديمة بأخرى حديثة dialysis machine 5008. وكانت تستورد معداتها، ومنها الأنابيب من شركة fresinius، وهي الشركة التي باتت المورد الوحيد لـ60% من مراكز غسل الكلى في المستشفيات. طوال فترة ما بعد التحديث، كانت الأمور تسير على ما يرام، حتى كانت الأزمة الاقتصادية مطلع عام 2019 وتحديداً مع بدء تنفيذ آلية الدعم. فقد مهّدت هذه الأخيرة الطريق لولادة دورة غير طبيعية في آلية استيراد الأدوية والمستلزمات الطبية تحديداً، حيث باتت كل آليات الشراء تخضع لما يجده حاكم مصرف لبنان مناسباً.
ومع تضاؤل كمية الأموال التي بات يصرفها المركزي للمعدات الطبية (10 ملايين دولار)، وتأخر دورة الصرف، باتت وتيرة تسلّم المستشفيات للمعدات غير ثابتة، و«في الكثير من الأحيان خضعت للتقنين»، يقول عضو مجلس نقابة الأطباء وطبيب الكلى، سعد أبو همين. وشيئاً فشيئاً، أصاب «العسر الشديد» بعض المستلزمات، حيث باتت تأتي «بالقطارة». ويذكر منها أنابيب «bloodlines» المستخدمة في ماكينات الـ«5008» التي تستخدمها اليوم غالبية مراكز غسل الكلى.
قبل أيام، وصلت الأزمة إلى حدّ الاختناق، وكان مستشفى المقاصد أوّل المتضرّرين منها عن طريق إعلانه انقطاع هذه الأنابيب وعدم قدرته على تسيير المركز بسبب عدم إمكانية «تركيب أنابيب أخرى لتلك الماكينات، إذ إن لها أنبوباً خاصاً وليس كما هي الحال مع الماكينات القديمة». وجد رباح نفسه مضطراً أول من أمس للطلب من المرضى القادرين، الذهاب إلى مراكز أخرى، أما الذين لا طاقة لهم على دفع الفواتير العالية، فالأكيد أنهم سيبقون بلا علاج «مع ما يعنيه ذلك من مخاطر».
يروي رباح تفاصيل الأزمة الأخيرة، مشيراً إلى «أنه كان من المفروض أن تصل الشحنة نهار السبت لكنها لم تصل. تواصلنا مع الشركة فقالوا لنا إنّ طائرة الشحن تصل نهار الأحد ومن المفترض أن نتسلّم المعدّات نهار الإثنين». غير أنه في اليوم الموعود، «فوجئنا بأن المعدات لا تزال لدى الجمارك ولم نتسلّم شيئاً إلى أن انقطعنا كلياً أول من أمس ولا نزال حتى اللحظة».
مرضى المقاصد بلا غسيل، مع ما تحمله تلك الكلمة من تبعات قد تصل إلى حدّ الموت، وكان مرضى آخرون في مستشفى «الزهراء» اختبروا الموقف نفسه بسبب تأخر شحنة سابقة للشركة نفسها. وهذه المرة، لا يعوّل بعض الأطباء على ما سيصل بسبب ضآلة المعدات، إذ يشير أحد الأطباء «إلى أن كلّ الشحنة تتضمن 3 آلاف أنبوب وهي لا تكفي لأكثر من يومين لمراكز غسل الكلى».
أما عن أسباب التأخير، فيشير عاصم جراح، إلى أن «ذلك يعود إلى الإجراءات في مطار بيروت الدولي ونحن موعودون قريباً بحلحلة الأمور». يتحدّث عن جانب آخر من الأزمة يتعلق بالخسارة التي يتكبدها هؤلاء جراء الشحن جواً «بسبب تأخر الشحنات عبر البحر»، مشيراً إلى أن «شحنة كان متوقعاً أن تصل عبر المرفأ الأسبوع المقبل، إلا أننا تبلغنا اليوم بأنها ستتأخر حتى آخر الشهر»! وتلك أزمة أخرى.
انسحاب الشركات!
ليست هذه الشحنات سوى إنذار أول لمعاناة يبدأها مرضى الكلى اليوم مع تعقّد آلية الدعم التي يديرها مصرف لبنان وشكوى الشركات من غلاء الشحن، كما الخيارات التي بدأت تتخذها بعض الشركات… بعيداً عن لبنان.
في الشق الأول، تختصر العلاقة مع مصرف لبنان نصف الأزمة، بحسب جراح، انطلاقاً من أن هذه الآلية «حصرت الشركات ضمن إجراءات معقّدة، فنحن مثلاً لم نستطع أن نفتح حساب فارما (farma account) للتعامل عبره مع مصرف لبنان، إذ لم يقبل أي مصرف بفتح هذا الحساب بسبب التأخير في تسديد الحسابات من مصرف لبنان، بالإضافة إلى تراكم الديون لدى مصرف لبنان عن ملفات سابقة وقد بلغت ديون فريسنيس مليوناً و300 ألف يورو لا تزال عالقة، فيما نقبض من المستشفيات باللبناني».
على الرغم من الأرباح التي راكمتها الشركات بسبب تلك الآلية، إلا أن حساباتها اليوم لم تعد تطابق الواقع اللبناني، «الشركات اليوم لديها هموم أخرى غير همّنا ولا أحد من هؤلاء مستعدّ للمخاطرة بما يفوق قدرته»، يضيف جراح. ولأنها كذلك، انسحبت بعض الشركات العالمية من لبنان، بعدما اقترب الخطر من «الجيب»، مشيراً إلى أن الأخيرة «لم تعد قادرة على التحمل بعد». بلغة الشركات «تعبنا»، وبات الأنسب هو «التفتيش عن وكيل جديد قادر على تحمّل الأعباء في ظل بلدٍ مكربج».