IMLebanon

هل نكبة البلد مسؤولية مسيحية؟

كتب شارل جبور في “الجمهورية”:

من الضروري الفصل بين التنافس المسيحي-المسيحي على السلطة، وهو مشروع، وبين الأزمات التي عصفت بلبنان وهي أكبر من طاقة المسيحيين على مواجهتها، ومن الظلم تحميلهم مسؤوليتها ومسؤولية ما أصاب لبنان والربط مع تنافسهم السلطوي على كرسي رئاسة الجمهورية.

يُسجَّل للمسيحيين في لبنان مساهمتهم الأساسية في بناء دولة حديثة كانت الأولى في الشرق التي تتمتّع بنظام ديموقراطي واقتصاد ليبرالي وحريات اجتماعية وثقافية، ولولا سعيهم وجهودهم وعلاقاتهم ودورهم لَما نشأ لبنان بالصيغة المعروفة، ولا يجوز إغفال هذا الإنجاز الذي لم يكن ليتحقّق لولا بصمات المسيحيين البيضاء.

وما يجب أن يُسجَّل للمسيحيين أيضاً انه عندما كانت دفّة إدارة البلد تميل لمصلحتهم كان هناك دولة فعلية في لبنان، وسلطات دستورية وازِنة ومؤسسات قضائية وعسكرية وأمنية وإدارية ومالية مهمة، وقطاعات تربوية واستشفائية وسياحية على أنواعها، وكان البلد ملتقى الشرق والغرب. وعندما انتزع المقود من يدهم تحوّل لبنان إلى دولة فاشلة ومساحة غير مستقرة ومكب نفايات، وأيضاً لا يجوز إغفال الفارق بين إدارتهم للبلد، وبين إدارة «حزب الله» اليوم لهذا البلد.

وما يسجّل للمسيحيين أيضاً وأيضاً مساهمتهم في هندسة نموذج تَشاركي بين المسيحيين والمسلمين في السلطة غير موجود في أي دولة في العالم، وهذا النموذج ارتكز على سقف سياسي عنوانه الشراكة في السلطة والقرار، وعمود فقري قوامه دولة مدنية حديثة مدعّمة بسياسة حياد خارجية، وقواعد مجتمعية متخالطة، وهذه الخلطة الثلاثية تمّ نسفها عن طريق استهداف الدور المسيحي.

وقد يقول البعض: ليس من الضرورة ولا المهمّ التذكير بما أنجزوه، لأنهم فشلوا في الحفاظ عليه بسبب صراعاتهم على رئاسة الجمهورية، وهذه التهمة ليست في محلها، لأنّ العواصف التي ضربت لبنان أكبر من قدرة موقع او طائفة على إقفال الأبواب والنوافذ أمامها، ولا شك في انّ وحدتهم تشكّل مصدر قوة لهم، ولكن هذه الوحدة لن تكون كفيلة في إنهاء الأزمات التي نشأت بمعزل عن صراعاتهم السلطوية، وذلك بعيداً عن جَلد الذات الذي وإن كان لا بدّ منه بين وقت وآخر في سياق النقد الضروري تحسيناً للسياسات المتّبعة، ولكن لا بد في المقابل من الإقرار بأنّ هناك ثلاث أزمات كبرى لم يكن باستطاعتهم منعها ومقدار الخطأ، ربما، هو في إدارة المواجهة معها:

الأزمة الأولى تتعلّق بالثورة الفلسطينية التي بدأت تتغلغل عسكرياً في الجسم اللبناني بعد نكسة العام 1967 وسط بيئة لبنانية حاضنة ورعاية عربية للتخلُّص من خطر هذه الثورة على أنظمتها وإلهائها ضمن مساحة جغرافية محددة، وكان يستحيل التصدي لهذه الثورة على الطريقة الأردنية بسبب تعددية المجتمع اللبناني وشعور بيئة لبنانية بأنّ هذه الثورة هي جزء منها، وكل الكلام عن انّ عدم جرأة المسيحيين بإصلاح النظام السياسي الذي كان كفيلاً بقطع طريق التماهي مع الحالة الفلسطينية ليس في محله، لأنّ الشعور بالانتماء إلى قضية معينة أقوى من صلاحيات وتعديلات ودساتير وأدوار.

فما بين المصلحة العربية بالتخلُّص من ثورة تحولت إلى عبء وخطر، وما بين الاحتضان الذي وَجدته في لبنان، لم يكن أمام المسيحيين سوى خيار التسلّح لمواجهة هذه الحالة التي لو لم تتم مواجهتها لكان انتهى لبنان بصيغته المعروفة، وقد نجح المسيحيون، بشكل أو بآخر وبطريقة أو بأخرى، بتوحيد صفوفهم لمواجهة الثورة، ولكن لم يكن بمقدورهم منعها.

الأزمة الثانية ترتبط بالوجود العسكري السوري الذي اعتبرته فئة لبنانية واسعة بأنه داخل بلده الثاني، وقد نجح الأسد الأب في إرساء علاقات متوازنة مع الدول العربية من جهة، وإيران من جهة أخرى، فحوّل وجود جيشه في لبنان إلى عامل اطمئنان للسنّة وارتياح كبير للشيعية السياسية التي يشكّل نظام البعث حليفها الاستراتيجي.

فالانقسام اللبناني أيضاً هو مَن أدخل الجيش السوري إلى لبنان، ولولا هذا الانقسام لما دخلت الثورة الفلسطينية إلى لبنان ولا الجيش السوري، والمسيحيون كانوا في موقع ليس منع هذه أو ذاك كونه خارج عن قدرتهم، إنما في موقع إدارة المواجهة التي أحسنوا فيها حيناً وأخطأوا أحياناً، وهذا أمر طبيعي.

ولولا رحيل الأسد الأب وتَخلّي الأسد الابن عن سياسة ميزان الجوهرجي بين العرب وإيران من جهة، والسنة والشيعة من جهة أخرى، لَما تَقاطع المسيحيون مع السنة والدروز بدءاً من العام 2000 وتمّ تتويج هذا التلاقي في انتفاضة الاستقلال في العام 2005، ولكن ما يجدر دائماً التذكير به انّ البيئة السنية في لبنان وعلى رغم مشاعرها نحو الأفق العربي الأوسع من لبنان كانت قادرة وراغبة في إنتاج تسويات لمصلحة لبنان والدولة فيه، ولكن الحالة الشيعية المتمثّلة في «حزب الله» تحديداً ليست قادرة ولا راغبة في إنتاج تسوية لمصلحة لبنان.

الأزمة الثالثة تتصل في «حزب الله»، وهو كناية عن مكوِّن لبناني من جهة، ولكن تكوينه السياسي والديني والوظيفي إيراني من جهة أخرى، وهل يتحمّل المسيحيون مثلاً مسؤولية وجود هذا الحزب؟ بالتأكيد كلا، ولا شك انه لولا انقلاب العماد ميشال عون على خياراته ومواقفه وتوجهاته وانتقاله للتحالف مع الحزب لكان الأخير في وضع سياسي صعب ومحشور، ولكنه لم يكن ليتخلّى عن سلاحه ودوره الإيرانيين.

فالتمييز ضروري بين عدم القدرة الآن على دفع «حزب الله» إلى تسليم سلاحه، وبين حُسن إدارة المواجهة معه بانتظار اللحظة التي يضطر فيها إلى تسليم هذا السلاح، ومن الظلم تحميل المسيحيين وحدهم مسؤولية الأخطاء في إدارة المواجهة مع الحزب.

وانطلاقاً من كل ما تقدّم، كيف كان يمكن ان يتعامل المسيحيون مع الثورة الفلسطينية والوجود السوري و»حزب الله»؟ وهل كان ليتبدّل الوضع جذرياً لو أحسنوا إدارة المواجهة وتجنّبوا الانقسام والخلاف وكانوا في وحدة صف وموقف؟ أليس من الظلم تحميلهم مسؤولية نكبة البلد بسبب تنافسهم على السلطة؟

وعلى رغم استحالة توحيد بيئة محددة بالمطلق وبشكل كامل، فإنه حتى لو حصل لَما بَدّل في جوهر الأزمات الثلاث واجتياحها لبنان، ومن الواجب والضروري عدم التعميم بوضع جميع المسيحيين في سلة واحدة، لأنّ هناك من يسعى إلى السلطة بمفهوم النفوذ، وهناك من يرى في السلطة وسيلة للدفاع عن لبنان الدولة والسيادة والاستقرار والازدهار والعيش معاً والحياد، ويستحيل الوصول إلى حلّ لبناني عن طريق المسيحيين لوحدهم، وأي حلّ يشترط وصول جميع اللبنانيين إلى قناعة بأنّ انتقالهم من الحروب الساخنة والباردة وانقساماتهم العمودية، إلى دولة طبيعية كالتجربة التي صاغوها بين عامي 1943 و1975، يتطلّب اتفاقهم على مساحة مشتركة تجمعهم، وهي الدولة الكفيلة بإدارة تنوّعهم وتعدديتهم وخلافاتهم، وما لم تتّفِق جميع المكونات اللبنانية على مبادئ ومسلمات وثوابت واحدة تتعلّق بنهائية لبنان وأولويته ودور الدولة الناظمة وحدها للحياة السياسية، فإنّ الانقسامات ستتوالى فصولاً، والدولة ستبقى مُغيّبة والسيادة منتهكة والاستقرار مغيّب، واستمرار هذا الوضع يبرِّر البحث عن حلول أخرى، لأنه لا يمكن ان يرضى أي إنسان أن يكون قَدره العيش وسط غابة ومزرعة.

إنّ نكبة البلد مسؤولية يتحمّلها جميع اللبنانيين، ولن ندخل في النسَب المئوية، ولكن نهضته أيضاً هي من مسؤولية الجميع.