كتبت سمر فضول في “الجمهورية”:
إلى المخيمات الفلسطينيّة تنزح لبنانيات لوضع مواليدهنّ.. خبر لم يعد صادماً بعد أن كشف اللّبناني الذي رهن سيارته في مستشفى في عكار مقابل تسلّم جثّة طفله الرضيع، القناع عن واقع الصحة الإنجابيّة المأسوي في لبنان!
بات مجرّد التفكير بمشروع الإنجاب مثقلاً بصعوبات، تبدأ من الشهر الأوّل للحمل ولا تنتهي مع الولادة، لذا اتجهت غالبية الأسر اللّبنانيّة إمّا الى غضّ النظر عن هذه الفكرة نظراً للكلفة المرتفعة للحمل وما بعده، من كلفة الزيارات الشهرية للأطباء إلى فاتورة المستشفى المدولرة، وصولاً إلى الحليب ومشتقاته واللوازم التي ترافق الطفل على مدى سنوات، أو من خلال البحث عن طرق بديلة لتوفير تكاليف الحمل الباهظة.
الواقع المرير هذا، ولّد ظاهرة جديدة ما كانت معهودة سابقاً، بدأت تنتشر وتتكاثر في عدد من المناطق، حيث تلجأ الامهات اللّبنانيات الحوامل الى المستشفيات الواقعة في نطاق المخيّمات الفلسطينية لوضع مواليدهن. وفي لبنان، 5 مستشفيات تسجّل حالات ولادات للبنانيات، وهي: مستشفى «الهمشري» في صيدا، ومستشفى «الناصرة» في بر الياس البقاع، ومستشفى «بلسم» في مخيم الرشيدية في صور، ومستشفى «حيفا» في مخيم برج البراجنة في بيروت، ومستشفى «صفد» في مخيم البداوي في طرابلس.
لا أرقام رسميّة!
لا أرقام رسميّة بعد تحدّد أعداد اللّبنانيات اللّواتي يلجأن إلى هذه المستشفيات، لكن مصادر كشفت لـ «الجمهورية»، أنّ مستشفى الناصرة يسجّل أعلى نسبة ولادات للبنانيات.
وبحسب المعلومات أيضاً، فإنّ الأرقام غير الرسميّة تشير إلى أنّ مستشفى حيفا سجّل الشهر المنصرم، أي شهر تشرين الثاني 2022: 4 ولادات، و4 في مستشفى بلسم في صور، فيما سجّل مستشفى صفد في طرابلس: 5 ولادات. ما يعني وبعملية حسابيّة بسيطة، أنّ نحو 250 إمرأة لبنانيّة يلجأن سنويّاً إلى هذا الخيار! فهل هذا الوضع سليم؟ وما هي المخاطر التي تعتري خطوات كهذه؟
مسؤول الإعلام في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني د. عماد الحلاق، يؤكّد لـ «الجمهوريّة»، أنّ «سببين أساسيين يشجّعان النساء على وضع مولودهنّ داخل مستشفيات المخيّمات: الاول غياب التمييز بين إمرأة لبنانيّة أو سوريّة أو فلسطينيّة، وهناك ترحيب بالجميع. والثاني، هو انّ المال لا يشكّل عائقاً أمام تقديم أيّ خدمة طبيّة، وتالياً ممنوع، بحسب قانون الهلال، أن تغادر أيّ مريضة أو مريض المستشفى من دون تلقّي الخدمة اللازمة، نظراً لعدم امتلاكه المبلغ المطلوب».
وعن الصورة النمطيّة المرسومة عن الواقع الأمني داخل المخيّمات معطوفة على خطر دخول المستشفيات هناك، يوضّح الحلاق، أنّ «الطواقم الطبية للهلال الأحمر الفلسطينيّ الموجودة في المستشفيات الخمسة، تضمّ عدداً لا بأس به من حاملي الجنسية اللّبنانية. فالطبيب اللّبناني يدخل ليلاً إلى المستشفى لمعالجة أيّ حالة طارئة ثمّ يخرج آمناً، والطبيبات والممرضات يداومنّ نهاراً ومساء في مستشفياتنا، وهذا مؤشّر الى أنّ الوضع الأمني ممتاز ولا أحد يتعرّض لأحد. أمّا في الشّق الصحيّ فالمستشفيات تراعي المعايير الصحيّة الدوليّة، من المعدات إلى الخدمة الطبيّة والنظافة..، وجميع الأطباء والممرضات مجازون ومعترف بشهاداتهم».
تجربة حيّة!
لم تكن ريما (اسم مستعار) تدرك أنّ وضعها الماديّ سينقلب رأساً على عقب، حين أقفلت الشركة حيث تعمل لسنوات أبوابها، من دون أيّ تعويض يذكر، لتنضمّ إلى قافلة العاطلين من العمل، قبل أن تدرك أنّها حامل في شهرها الأوّل، لتبدأ من هناك رحلة «العذاب» الماديّ، في ظلّ وضع إقتصاديّ يشتد سوءاً من يوم إلى آخر.
فجأة لم تعد ريما من المستفيدات من خدمات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وهو في الأساس، لم يكن ليغطي تكاليف زيارة الطبيب النسائيّ التي تبدأ بمليون ليرة، ولا الفاتورة الاستشفائية المدولرة، ولا حتّى كلفة الدواء والفيتامينات الفعليّة التي تحتاجها المرأة الحامل.
أصرّت ريما على الاستمرار في حملها وكلّها إيمان بأنّ الحال ستتبدّل، ولكن ما هي الّا أشهر حتّى فقد راتب زوجها قيمته، ولم يعد يكفي الّا لما تيسّر من مأكل وملبس.
إحدى صديقات ريما، وقد أنجبت في مستشفى حيفا داخل مخيّم برج البراجنة، بناءً على نصيحة صديقة لها متأهّلة من رجل فلسطينيّ الأصل، عرضت عليها مرافقتها إلى المستشفى، حيث يمكنها زيارة الطبيب وإجراء الكشف الشهرّي بكلفة لا تتعدّى الـ 150 ألف ليرة.
تغاضت ريما عن الشكوك المرتبطة بأمن المخيّمات، وتجاهلت المخاطر المحتملة، وقصدت المخيّم، لكنها ما لبثت أن عادت أدراجها فور دخولها الحيّ، فالاكتظاظ، والاسلاك الكهربائية المتشابكة التي تمنع كثافتها أشعة الشمس من اختراق زوايا الحي الشعبي المعدوم اجتماعياً واقتصادياً، صور «الشهداء»، الطرق الضيّقة، المباني العشوائية الآيلة للسقوط بأيّ لحظة، عوامل اجتمعت مع بعضها لتعود ريما أدراجها وتخرج من المخيّم حتّى قبل الوصول إلى المستشفى.
مكرهة لا راغبة، دفع الوضع الإقتصاديّ بريما للعودة ثانية إلى المخيّم، حيث وضعت لاحقاً مولودها. وإذ أكدّت أنّ «كل الأمور سارت على خير»، أشارت إلى أنّها واجهت بعض الصعوبات النفسيّة التي راكمتها جرّاء اتخاذ خطوة كهذه. فمن جهة تعتبر أنّها عرّضت نفسها وجنينها لخطر أمني داهم، إذ من الممكن أن تتأزّم الأمور في أيّ لحظة داخل المخيّم، ناهيك عن الخوف الذي يعتري كلّ إمرأة تمرّ في هذه التجربة، «أمّا بالنسبة إليّ فالخوف كان مضاعفاً من احتمال حصول أيّ مضاعفات أثناء الولادة، رغم أنّ المستشفى مجهّز، والطاقم الطبّي حريص وذو خبرة، وقد حظيت بالاهتمام والعناية اللازمة، وهذا ما خفف من وطأة الأمور».
ظاهرة بدأت مع الأزمة
تستفيض القابلة المسؤولة عن قسم التوليد في مستشفى حيفا في الحديث عن الامهات اللّبنانيات اللواتي يقصدن المستشفى للإنجاب، فتؤكّد أنّ اللّبنانيات يقصدنه نظراً للكلفة المخفوضة، وذلك مقارنة بفاتورة المستشفيات الخاصة والحكومية وأجر الأطباء، مشيرة إلى أنّ المستشفى لم يكن يشهد هذه الظاهرة من قبل، وكانت البداية مع لبنانيات متزوجات من فلسطينيين.
وتكشف القابلة عن فاتورة الولادة في مستشفى حيفا، فهي لا تتعدّى الـ 3 أو الـ 4 ملايين ليرة قابلة للخفض بحسب دراسة الواقع الاجتماعي والاقتصادي للعائلة، أما العملية القيصرية فتصل إلى 9 ملايين ليرة لبنانية، وقابلة أيضاً للخفض.
يختلف عدد حالات المعاينة داخل العيادة النسائية عن قسم الولادات. ففي الاولى يبدو العدد أكبر نظراً للكلفة المخفوضة التي يتقاضاها الطبيب المعاين حيث أنّها «لا تتخطّى الـ 150 الف ليرة» من ضمنها الصورة الشعاعية، وهذه أيضاً كلفتها مخفوضة قياساً على فواتير الأطباء خارج المخيم.
سوق القابلات!
ولكن هذا الواقع يقابله نشاط غير مشروع داخل المخيمات في الآونة الأخيرة، وهو سوق القابلات، الذي تحوّل مقصداً حتّى للنساء اللّبنانيات، وتحديداً بهدف الولادة أو الإجهاض خصوصاً بعد ارتفاع أسعار حبوب منع الحمل وصعوبة الحصول عليها من دون وصفة طبيّة، وتشير المعلومات إلى أنّ كلفة الولادة أو الاجهاض لدى القابلة في المخيّم تتراوح ما بين الـ 200 والـ 300 دولار.
رئيس لجنة الصحة النيابيّة السابق عاصم عراجي أكّد عبر «الجمهوريّة» تنامي ظاهرة ذهاب الحوامل اللبنانيات إلى مستشفيات المخيّمات الفلسطينيّة لوضع مولودهنّ، وعلّق قائلاً: «شو اللي دفعك إلى المرّ؟ قلّو الأمرّ منه»، مؤكّداً في الوقت عينه أنّ «المستشفيات مجهّزة بالأطباء والمعدات اللازمة».
أمّا عن المخاطر الصحيّة للولادات لدى القابلات، خارج إطار المستشفيات، فحذّر عراجي من التداعيات التي قد تترتّب على المرأة الحامل جراء خيارات كهذه، خصوصاً اذا لم تُحترم المعايير الصحيّة الضروريّة، لافتاً إلى أنّ العواقب «قد تتخطّى الالتهابات وتصل الى درجة النزيف الحاد، واستئصال الرحم».
في المحصّلة، لم يسلم الإنجاب من الأزمة المالية التي يُعاني منها لبنان، وفرض انهيار القطاع الاستشفائي واقعاً جديداً على المرأة اللبنانية الحامل، الباحثة عن مصدر توفير لقرشها الابيض لاستعماله في زمن تكثر فيه الايام السود. وتحولت «ريما» من حالة فردية إلى فكرة جماعية تستقطب اللبنانيات الباحثات عن «فلس الأرملة» في ظلّ وضع اقتصادي كارثي انعكس على القطاع الصحي، الذي سجّل مؤشر أسعار الاستهلاك فيه ارتفاعاً بنسبة 1338,28% خلال تشرين الاول الماضي، وهو رقم خطير ينذر بكارثة كبيرة على هذا القطاع!
تمّ إصدار هذا التقرير بالتعاون مع مؤسسة «مهارات» ومنظمة «Hivos» ضمن مشروع We Lead، مع الإشارة إلى أنّ المحتوى لا يعبّر بالضرورة عن آراء المنظمة.