IMLebanon

لبنان.. الفراغ سيّد الأعوام

كتب أيمن جزيني في “اساس ميديا”:

في الحديث عن أيام اللبنانيين وشأنهم تحت الاحتلالين العسكري السوري والإيراني أنّهم ألفوا الفراغ في مناصب الحكم الأساسية في بلدهم، حتى صار الفراغ شيئاً من طبيعتهم. وهذا يخالف الطبيعة السياسية ويناقضها. حتى الطبيعة على معناها المجرّد هي على الضدّ من الفراغ.

كأنّما لا سياسة ولا دستور ولا استحقاقات في لبنان. وهذا هو معنى عيش أهله تحت احتلالين سياسيَّين. تعوّد اللبنانيون على صيرورة حياتهم السياسية والدستورية انتظاراتٍ مُعلّقةً على الدوام على نضوج كيمياء المعادلات بين المكوّنات المهجوسة بكلّ شيء: من الانتماء حتى التفريط بالسيادة الوطنية لخارج ما.

ينتظر اللبنانيون بفارغ الصبر خلاصهم من فراغ رئاسي أو حكومي، وإذ بهم ينتقلون من واحد إلى مثيله. ودوماً يعيشون على الشفير، فيما قادة البلد الممسكون بأعنّته يبيعونهم الأمل.

هذا العام وما سبقه من سنوات، وما سيليه في المقبل من أيام، لا يشي بغير فراغ على مثال ما كان وتحقّق منذ خرجوا جميعاً على وثيقة الوفاق الوطني إلى أعراف وتسويات وترقيعات فوضوية، كأنّهم لم يعيشوا يوماً في دولة يحكمها قانون ودستور ومؤسّسات.

كلّ الحديث عن الأسماء المرشّحة رئاسياً وتقدّم حظوظ بعضها على حساب الأخرى، يبقى هدفه “ملء الفراغ” الإعلامي والسياسي. فلا أحد تقدّم ولا أحد تراجع

والفراغ الذي يواجهه لبنان اليوم مثلّث الأضلاع: رئاسي، حكومي، وحتى برلماني افتتحه الجميع مع الرئيس نبيه برّي بـ”تشريعات” كان يجب أن تصدر. وقد أُصلي رئيس البرلمان حرباً عن “فراغ برلماني” شارك فيه الجميع. بعضهم بالمباشر. سِواهم بالتورية. ثالثهم بالسكوت عمّا يحصل.

لن تكون إطلالة عام 2023 “برداً وسلاماً” على اللبنانيين. مظاهر “البهرجة”، “الفرح” والحركة التي أضفاها المغتربون على الأسواق اللبنانية ستتلاشى مع مغادرتهم في نهاية عطلة الأعياد، وستعود البلاد إلى واقعها المرير: أفق رماديّ، بل حجريّ، يهرب منه اللبنانيون في المناسبات، بل يفتعلون المناسبات للهروب منه.

أحياناً يقول بعضهم: وما همّ أن يكون قصر بعبدا بلا رئيس. ويقول آخرون: فليكن ألّا تتشكّل حكومة، أو فلتكن حكومة مستقيلة. الأمر سيّان. ولنُدِر ظهورنا للاشتباك الدائر الذي يسمّونه اشتباكاً سياسياً. وهو ضرب من ضروب الفراغ.

والاشتباك السياسي مفتوح على مصراعيه حكومياً ورئاسياً. ولم تتّضح بعد فداحة الأضرار التي تسبّب بها إجهاض “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية” الحوار “المجلسي” ضدّاً من نبيه برّي الذي أقرّ بعدم جدوى تكرار “مسرحيّة” الجلسات الرئاسية من دون توافق مسبق على اسم الرئيس.

لبنان لم يعد يرِد اسمه أميركياً بعد ما كان في الترسيم أولاً. والآن، هو غير مرئي على جدول أعمال أوروبا، على الرغم من الإيحاءات الفرنسية بدور تقوم به باريس بالتنسيق مع قطر. يتبيّن يوماً بعد يوم أنّ المسألة “دعائية” فحسب ومبالغٌ فيها، خصوصاً بعد تخلّي فرنسا عن مراعاة إيران وخروجها من دور “الوسيط” وإبداء انزعاجها من الدور الإيراني في المنطقة كلّها، في ردّ فعل على التعاون العسكري الإيراني – الروسي في أوكرانيا.

إذاً فلننسَ نحن أيضاً لبنان والفراغ الحاصل فيه. لكنّ الأمور ستزداد تعقيداً بنسيان أو بلا نسيان. تعقيد لا يمكن معه الوصول إلى تفاهم بعيداً عن الملفّات الساخنة في المنطقة والعالم. حتى الحديث عن حوار ثلاثي سعودي ـ أميركي ـ فرنسي يبقى حديثاً مع الذات، ما لم يشمل إيران بوصفها قوّة احتلال سياسي للبلد. هذا يعني في ما يعني أنّ البلاد في حال فراغ طويل ومفتوح على كلّ الاحتمالات. والناس تعوّدوا وربّما صاروا يديرون ظهورهم للفراغ وسياسة الفراغ والفراغ السياسي ما دام بلدهم منسيّاً في الاهتمامات الدولية.

تبدو حالة الفراغ طويلة. تنتظرنا مطلع العام معركة سياسية محورها نيّة رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي عقد جلسة جديدة للحكومة

كلّ الحديث عن الأسماء المرشّحة رئاسياً وتقدّم حظوظ بعضها على حساب الأخرى، يبقى هدفه “ملء الفراغ” الإعلامي والسياسي. فلا أحد تقدّم ولا أحد تراجع.

الشغور الرئاسي ومعه الحكومي صارا أمرين شائعين وعاديّين. المُقلق أنّ هذا يذهب في اتجاه التعايش الدائم مع “أزمة نظام”، من دون أن يكون البلد قادراً على التوجّه نحو بديل يقدّم ما قدّمه الطائف من ضمانات للطوائف وللمجتمع المدني (مجلس شيوخ، وانتخاب من خارج القيد الطائفي). المثير للقلق أكثر فأكثر هو سكوت اللبنانيين حتى البَكَم وانصرافهم عن الأمر، كأنّه لا يعنيهم. الصمت هذا يعلن مواربة التسليم بـ”أزمة نظام” تُصاحبها حناجر تصدح بالفدرالية والأمن الذاتي. ولا أحد معنيّ بالأمر. والأمن الذاتي قائم من دون منّةٍ عند حزب الله ورهطه ومشايعيه.

لكنّ الأخطر من هذا قد يكون موت السياسة موتاً غير مسبوق من قبل، موتاً ملموساً من دون أن يكترث أحد باهتراء جثّة السياسة تماماً، كأنّما هذا لا يؤثّر على البلد وأهله. وربّما ليس في وسع الناس أن يفعلوا غير ذلك.

باستسهالهم الصمت يُغفل اللبنانيون ما يحصل ويتكرّس من أنّهم صاروا على وجهة التنافر فيما بينهم. ويغفلون عن قصد أو بغيره أنّ هذا على النقيض من الطائف الذي أُوجِد ليقيم دولةً مدنيةً تحاول اللحاق بالجانب المضيء من العالم. لكنّ الأمور تبدّلت. فالسلوك انحداري ومُكلف ووجهته مظلمة وقد تكون دامية.