كتب جورج شاهين في الجمهورية:
صُمّت آذان اللبنانيين من حجم المبادرات التي تم تداولها طوال عطلتي الميلاد ورأس السنة بعدما توزّعت بين من قام بها علناً وفولكلورياً وبين تلك التي دارت في الكواليس ما قاد الى تعدد السيناريوهات المتشابهة من دون قدرة على تشخيصٍ واحد منها قابل للحياة. لكن امّا وقد اجترّ البعض نفسه فقد ثبت انها سعرت النار تحت «طبخة بحص». فما الذي يبرر هذه الحالات؟
على هامش حراك رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل في أكثر من اتجاه، بما فيه الذي عُدّ تجاوزاً للاطار السابق الذي تحكّم بحركته، شهدت الكواليس السياسية والنيابية مجموعة من الإتصالات غير المعلنة في غير اتجاه بما فيها تلك التي استوجبت فتح خطوط التواصل بين لبنان والخارج بعدما امضى بعض النواب عطلة الأعياد في عواصم متعددة. ولكن لم ينته أيّ منها الى أي تعديل في المواقف الثابتة من مواصفات الرئيس العتيد والأسماء المتداولة التي يمكنها خوض السباق الى قصر بعبدا متى استؤنفت جلسات الانتخاب.
وإلى ما رَصدته وسائل الإعلام من مبادرات ولقاءات، وما انتهت إليه من فشل لم يعد خافياً على أحد، فإن بعض الخطوات لا زالت مغلفة بغموض شديد انعكس على ما انتهت إليه في انتظار اللحظة التي ستسمح لأصحابها بالكشف عنها. وأبرز المبادرات كان تلك التي قادها موفدون ومستشارون لبعض الأقطاب الذين تحركوا بين أكثر من موقع، ولم يكشفوا بعد عن مجموعة الأفكار المتداولة وما انتهت اليه، خصوصاً انّ بعضها شكّل اولى الخطوات للمباشرة في البحث عن أسماء من لائحة جديدة من المرشحين أبعدت أبرز الاسماء التي تم تداولها في ساحة النجمة واستبدلت بأخرى على طريق البحث عن مشهد جديد يمكن ان يفضي الى اعادة نظر واسعة في مجلس النواب ان حققت هذه الأفكار المطروحة أي تقدّم مُحتمل.
وان لم ينته بعض المبادرات الى مقاصده، فإنّ ما هو ثابت ان أياً من أصحابها لم يصل بعد الى المرحلة التي يمكن ان تنتج توافقاً على مرشح يحظى بأصوات تصل الى حدود النصف زائدا واحدا او اقل بقليل، ليكون الكشف عنه مناسبة للحديث عن إنجاز طال انتظاره ويمكنه ان يقلب المعادلات التي تحكّمت بالمواجهة المستمرة بين مؤيدي ميشال رينه معوض من جهة والاوراق البيض من جهة أخرى وما بينهما من اسماء مشتتة يجري تداولها الى جانب بعض الشعارات. وهي عملية أبعدت ظهور أي احتمال بتغيير محتمل يقود إلى مواجهة حتمية بين اثنين أو ثلاثة من المرشحين الجديين.
وان فشلت كل المبادرات في الوصول الى هذه المرحلة المتقدمة ولو نظرياً لحصر المنافسة بين عدد قليل من المرشحين، فمن المستحيل ان توجّه الدعوة الى جلسة انتخابية تاريخية تظلّلها الديموقراطية التي يتغنّى بها البعض، ويمكن ان تنهي الخلو في سدة الرئاسة أيّاً كانت هوية مالئها ومواصفاته. ولذلك، فإنّ هناك كثيراً من المؤشرات التي تبرر هذا المصير. فالاقتناع بأنّ بعضاً من هذا الحراك لم يثمر بات ثابتاً، في ظل التماسك بالحد الادنى الذي ما زالت تحتفظ به القوى المتنازعة في ساحة النجمة. فقد سبق هذه الانتظارات ما يكفي من العروض التي أوحت بذلك «الستاتيكو» السلبي مهما تبدلت المواقف المتفرقة لبعض نواب التغيير او المستقلين والتي لا يستحيل معها إحداث اي تغيير.
والى هذه المعادلة السلبية التي ما زالت تعوق إتمام الاستحقاق الرئاسي بالنحو المنتظر، فإنّ الرهان على مبادرة ما او تدخل خارجي قد بدأ يتضاءل الى الحدود الدنيا. ولم يكن ينقص ما يعزز هذا التوجه ان يعلن الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله ان طهران لم ولن تتدخل في الاستحقاق الرئاسي. وان القيادة الايرانية سبق لها ان رفضت ان تشرك في مفاوضاتها مع واشنطن ومجموعة الـ (5+1)، ان يكون على جدول اعمال اي مؤتمر او لقاء ما يسمّيه الغرب «التوسع الايراني» خارج أراضي الجمهورية الاسلامية الايرانية وحصر المفاوضات بملفها النووي على رغم من حجم المطالبة الدولية بذلك. وهو امر ليس بجديد منذ ان انطلقت هذه المفاوضات وحتى الاعلان عن التفاهم في تموز 2015، والذي تزامن مع غرق لبنان في عمق مرحلة خلو سدة الرئاسة الذي امتد منذ نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان في 25 ايار 2014 وحتى انتخاب العماد ميشال عون في 31 تشرين الاول عام 2016. ولم تنته تلك المرحلة بتدخل ايراني، لا بل وضعت التسوية السياسية التي انخرط فيها أكثر من طرفٍ لبناني حداً لها بإجماعهم على انتخاب عون.
ومن دون تجاهل كل تلك المعطيات والتي قد تستنسخ مرة اخرى اليوم، فقد ظهر واضحاً انه وإلى جانب اسقاط الدور الايراني الذي نعاه نصرالله، فقد عززت المواقف الدولية الاخيرة استحالة وجود مبادرات خارجية ايجابية كتلك التي تتحدث عن مبادرة قطرية او فرنسية وربما مصرية. فكل الاجواء توحي انّ مثل هذه الامر ما زال حلما بعيد المنال. وما يثبت ذلك تعكسه المعلومات التي تشكّك في إمكان انعقاد اللقاء الرباعي الذي يجمع مسؤولين سعوديين، اميركيين، فرنسيين وقطريين قيل انه سيعقد هذا الشهر في باريس. في مقابل تجدّد الحديث الجدي عن انّ ما هو مطلوب دوليا وإقليميا ما زال رهناً بنتائج أي حراك لبناني يؤدي الى التقدم الى مكان ما يلاقون فيه الدعم الدولي المبني على ما تحقق من قبلهم. وهو امر يعزز الثقة الدولية في موازاة المحلية منها، في امكان اعادة بناء السلطات الدستورية لتقوم بأدوارها المتكاملة، وإحياء المؤسسات سواء تلك التي فقدت قدرتها على تقديم أي خدمة وجدت من اجلها، او تلك التي تتجه الى التحلّل مخافة الوصول الى مرحلة يصعب فيها اعادة بناء ما تم تفكيكه وتدميره منها بأيد داخلية.
عند هذه الحدود من الرهانات الداخلية الفاشلة وتلك الخارجية الفضفاضة التي لا يمكن الركون اليها، يبدو الحديث عن مبادرات ايجابية أضغاث احلام. فكل ما رافق الحراك الاخير بقي – وعلى رغم مما رافقه من ضجيج – مجرد سيناريوهات وهمية تعزز الإقتناع بأنّ أياً من القوى الداخلية لن يتمكن من قلب المعادلات السائدة. وبالإضافة الى ذلك، فإنّ بعض المبادرات التي يطلقها بعض النواب منفردين او تلك التي ينوي القيام بها نواب تغييريون عاجزة عن فك الألغاز المحيطة بالاستحقاق، حتى انّ بعضها مثير جداً في ظل عجزهم عن توحيد موقفهم قبل مطالبة الآخرين بالإجماع على ما يقترحون.
ولئلّا يُقال ان بعض الأفكار المطروحة يثير الشفقة قبل السخرية، فإنّ هناك من يريد تلطيف الجو، فيتحدث عن نار قوية أوقدت لتسعير اللهيب تحت «طبخة بحص» لا يستطيع احد تقدير موعد نضوجها.