كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
شكّل غياب الرئيس السابق لمجلس النواب السيد حسين الحسيني أمس مناسبة لتأجيل احدى الحلقات المذلّة من جلسات انتخاب الرئيس، وبالتالي فقد أنقذ معظم الكتل النيابية من مآزقها. فأصحاب الأوراق البيض انتعشوا بعد ان أُرجىء «المنظر المهين» لإعادة تجميعهم بالترغيب والترهيب. كما انفرجت اسارير الفريق الآخر الذي جهد في الايام القليلة الماضية لإعادة لملمة الصفوف بعدما تعدد المرشحون بحثاً عن البدائل. وعليه، ما الذي أوحى بهذه المعادلة؟
تُجمع مراجع نيابية وسياسية وحزبية على القول بلا تردد وبصوت عال، ان غياب الحسيني، بصمت وبلا اي ضجيج رافقَ المحنة الصحية التي عانى منها في الايام الأخيرة، أنقذ مجموعة من القوى المتحكمة بالمجلس النيابي والتي عجزت عن إتمام ما هو مطلوب منها أكثر من مرة، لا سيما على مستوى انتخاب رئيس الجمهورية. كذلك أرجأ غياب الحسيني في هذا التوقيت بالذات، فصلاً من فصول الذل وفقدان كل أشكال الديموقراطية التي كان يتمتع بها المجلس النيابي في المرحلة التي أعقبت إبعاده عن موقع رئاسة السلطة التشريعية التي لم تخذل اللبنانيين مرة، ولم تسمح بأي خلو في سدة الرئاسة الاولى مهما كانت الظروف المحيطة بتلك اللحظة صعبة ومعقّدة. ولم تسجل تلك السلطة خروجاً على أصول انتخاب الرئيس من ضمن المهل الدستورية وقبلها ذات لحظة. والتاريخ شاهد على هذه القراءة التي لا يمكن التشكيك بشكلها ومضمونها وتوقيتها.
على هذه الخلفيات كان المنتظر ان يشهد اللبنانيون ابتداء من الحادية عشرة قبل ظهر اليوم على مشهد مُمل بعد تكراره عشر مرات من قبل. وسيتجلى مرة أخرى بالحلقة الحادية عشرة من مسلسل جلسات الخميس الانتخابية الرئاسية لتحمل رقما جديدا يُخفي خلفه الستاتيكو السلبي المتكرر طالما ان أي خطوة لم تتخذ في الطريق الى تعديل موازين القوى التي كرّست معادلة «ميزان الجوهرجي» الذي يمكن التلاعب به، وفقاً للعيارات الذهبية المعتمدة لتصنيفه. وهي معادلة حافظت على مقوماتها الدقيقة المتوازنة بعدما سقطت مجموعة المبادرات التي اطلقت في محاولات يائسة لتغييرها، ومنعت اي تعديل يؤثر أو يغيّر من رتابتها. فبقيت قائمة طوال الجلسات السابقة من دون ان تأتي بالنتائج المطلوبة منها لتنتج رئيسا جديدا للجمهورية كان لا بد من ان يكون في موقعه على رأس الدولة يكمل عقد المؤسسات الدستورية العرجاء، ويعفي اللبنانيين من مظاهر الفلتان القائمة على اكثر من صعيد ومستوى دستورياً كان ام سياسيا ام حكوميا او اداريا. وقد كانت اولى مهماته ان يضع بعد القسم الدستوري المطلوب منه وحيداً، حداً لمظاهر الخروج على ما يقول به القانون والدستور ويُنهي سيطرة القوة القاهرة القادرة على تجميد العمل بهما. فوضعهما ولفترة طويلة نَسي البعض تاريخها بعدما طالت وتعددت فصولها على أعلى الرفوف بعيداً من متناول من ائتُمِن على تطبيقهما والتزام ما فرضا من صلاحيات وحقوق وواجبات.
وكل ذلك كان يجري، على وقع استمرار التفسيرات والاجتهادات الدستورية التي امتهنها مستشارو البلاطات المعتمدين لديها. وهي التي أبعدت إمكان الوصول الى اي تفاهم على تفسير مواد الدستور في أكثر من مجال تعدّى أصول انتخاب الرئيس الى الممارسات في السياسة اليومية في السلطة بما يتلاقى وينطبق مع ما نَواه المشترعون الكبار عندما صاغوا مواده واحدة تلو الأخرى من دون ان يحتسب اي منهم ان هناك منظومة كتلك القائمة منذ فترة يمكنها ان تتحكم بالبلاد بأي طريقة، ومنها تلك التي تديرها اليوم وترعى شؤون عبادها.
وان طلب من اصحاب هذه القراءة ان تبرّر ما وصلت اليه الامور يمكنها ان تشرح ما كشفته الحركة السياسية المتعددة الاطراف التي شهدتها البلاد في الفترة الاخيرة لترميم العلاقات بين ابناء البيت الواحد قبل الوصول الى مرحلة الحديث عن حوار او مفاوضات يمكن ان تقوم بين طرفين متنازعين. وعليه، لا يمكن لأي طرف ان يتنكر لها، فالطرفان اللذان رسمت الجلسات العشر الانتخابية الرئاسية ادوارهما المتكافئة سلباً احتفظا بمواقعها واحجامها. والتي تراوحت بين الدفاع عن «الورقة البيضاء» وأهميتها ورمزيتها من جهة ومؤيّدي المرشح ميشال معوض من جهة أخرى وما بينهما من أصوات متفرقة تتسلى ببعض الأسماء المُشتتة ومعها مجموعة «الشعارات الفارغة» التي حالت في حال احتسابها طرفاً ثالثاً في النزاع القائم من دون ان ينتصر أي فريق على آخر.
وعليه، لا يمكن لفريق الورقة البيضاء ان يتجاهل المساعي التي بذلها مُبتدعها لمنع خروج نواب كتلة «لبنان القوي» من مظلتها تارة بالترغيب وأخرى بالترهيب. ولذلك فقد انتهت الحركة التي قادها رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل بالفشل الذريع. فقد حاول التفلّت من عباءة «حزب الله» التي تدير مجموعة نواب «الثنائي الشيعي» وحلفائهما، والعصيان على ما أرادته من تصلبها في المواجهة المفتوحة مع الطرف الآخر. وانتهى به المطاف الى معركة قاسية داخل كتلته النيابية جعلته يعود تائباً الى حلقة «الورقة البيضاء» بعد تقدير الأثمان الباهظة ان خرج منها الى اي مرشح «له القدر والقيمة» كما قيل. فلم ينجح في ترشيح احد من خارج كتلته، ولم يسمح ان يناقش باسم آخر من اهل بيته بعد إقفاله الباب امامهم جميعاً، فكانت عودته الآمنة الى «حظيرة الورقة البيضاء» من دون الخوف من ان ينبت شعار من هنا او اسم موقوف من هناك.
وعلى مقلب قوى المعارضة والتغييريين، حدّث ولا حرج عما يعانيه هذا الفريق، فبعد محاولات البحث عن بديل من مرشحه الثابت ميشال معوض، نتيجة الخروقات التي أحدثتها بعض المداخلات «الملغومة» باسم هذا القطب او ذاك، اندلعت مواجهة شرسة تقدّم فيها النائب نعمت افرام معتبراً نفسه مرشحاً طبيعياً وسَعَت «القوات اللبنانية» الى استمزاج بعض الآراء بحثاً عن بديل أقوى، فانتفض الباقون كتلاً وافراداً لحماية معوّض مرشحاً وحيداً لا بديل منه. وتراجع من حاول استبداله مُعلناً انه «المرشح الأبدي» لهم. وما شهدته بعض المقار الحزبية المعنية في الأيام الأخيرة الماضية خير مثال على حال البلبلة التي سادت. حتى ان بعض النواب التغييريين ومن المستقلين تجرأ واعتقد ان في امكانه ان ينجح حيث فشل الآخرون فتعددت المبادرات الفردية الفاشلة بعدما انتهى بعضها في مهدها.
على هذه القاعدة، لم تر المراجع النيابية والسياسية والحزبية حرجاً من اعترافها بأنّ وفاة الرئيس حسين الحسيني امس، شكلت مناسبة لتأجيل «جلسة الذل» التي كانت متوقعة اليوم أيّاً كانت الأرقام التي ستأتي بها. فإن احتفظت الاوراق البيض واصوات معوض بمعدلاتها السابقة سيثبت ان «حزب الله» استطاع ان يحتفظ بعدّته للمواجهة وطَوَى محاولات التفلت من عباءته. كما بالنسبة الى الآخرين الذين تيقّنوا انّ وقت التغيير لم يحن بعد. ولذلك أُرجئت كل الخيارات المنتظرة اسبوعاً كاملاً بحيث ستسمح الايام الفاصلة بأن يقوم البعض بـ»السبعة ودمّتها» من دون اي نتيجة «محرزة» ما لم تتبدل الاجواء العامة في البلاد والمنطقة، وهي عملية بعيدة المنال.