كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
واضح أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ماضٍ في سياسته القاضية بتثبيت موقعٍ شبه مستقل لفرنسا على المسرح الدولي، أو على الأقل موقع متمايز عن الولايات المتحدة، خصوصاً في ما يتعلق بحرب روسيا – أوكرانيا والملف النووي الإيراني.
وأعلن ماكرون صراحة في الأيام الأخيرة، أنّه سيمضي في محاولاته التوسط مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لوقف الحرب. وكذلك أعلنت طهران أنّ وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني سلّم نظيره الإيراني حسين أميرعبد اللهيان رسائل من الدول المعنية باتفاق فيينا 2015، وتحديداً فرنسا وبريطانيا وألمانيا، تدعوها إلى استئناف المفاوضات المجمّدة.
لكن العلاقات الفرنسية – الإيرانية شهدت اهتزازات قاسية في الفترة الأخيرة على خلفية العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والولايات المتحدة قبل أيام على الحرس الثوري الإيراني والكيانات الرديفة، بسبب ممارستها العنف ضدّ المتظاهرين.
كما تفاقم ملف الرهائن الفرنسيين في طهران الذين بلغ عددهم 9 حتى الآن، وقد جرى احتجازهم هناك بتهمة التجسس والإخلال بأمن الدولة. وهذا الملف استدعى محادثات هاتفية أجرتها وزيرة الخارجية كاترين كولونا مع نظيرها عبد اللهيان، الأسبوع الفائت، أعقبت انتقادات عنيفة وجّهتها إلى طهران.
ولكن، ثمة قواعد اشتباك تحكم العلاقة الفرنسية – الإيرانية في لبنان، وأبرزها الآتي:
– يوافق الإيرانيون، من خلال «حزب الله» صاحب القرار الأول في السلطة، على إيلاء فرنسا دوراً مميزاً في ملف التنقيب عن الغاز في المتوسط واستخراجه، من خلال شركة «توتال».
– هناك حدّ أدنى من التفاهم بين فرنسا و»حزب الله» على أن يكون لباريس موقع مميز في رعاية التسويات السياسية في لبنان، مقابل أن تحافظ على موقع مميز لـ»الحزب» في اللعبة السياسية، وبنحو متمايز عن الموقف الأميركي.
وبناءً على قواعد الاشتباك هذه، يحاول الفرنسيون اللعب على خط الوسط بين إيران والولايات المتحدة، ويعتقدون أنّ الطرفين يحتاجان إلى وساطتهما للخروج من المآزق، وأنّ هذا التموضع المتوازن سيسمح لهم بالحفاظ على رصيد الطرفين المتقابلين، وتالياً على المكاسب الاستراتيجية التي يحاذرون ضياعها، في البلد الفرنكوفوني الصغير الذي صنعوا حدوده يوماً، والفريد بميزاته في الشرق الأوسط والعالم العربي.
ومن هذا المنطلق، يستعد ماكرون لعقد اللقاء الخماسي في باريس، على مستوى مدراء الخارجية، في فرنسا والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر ومصر، في 6 شباط المقبل، للبحث في إمكان الدفع نحو التسوية السياسية، خصوصاً على مستويين: إعادة بناء السلطة انطلاقاً من انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة فاعلة، والنهوض من الهوة المالية من خلال خطة تلبّي شروط صندوق النقد الدولي.
ولكن، إلى أي حدّ سيتمكّن الفرنسيون من تحقيق الخرق في الجدار اللبناني المسدود؟
المطلعون يقولون إنّ باريس تراهن على تفاهم الحدّ الأدنى مع طهران حول تسوية صغيرة في لبنان. وفي اعتقادهم أنّ تموضعهم المتوازن على الخريطة الدولية يمنحهم رصيداً جيداً لدى إيران. فالأوروبيون عموماً، والفرنسيون خصوصاً، سلّفوا إيران كثيراً من الخدمات في مرحلة سابقة، إذ ساهموا بقوة في تنفيس الضغط الذي مارسته إدارة الرئيس دونالد ترامب عليها، بعد إعلان انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي.
وهذا الأمر دفع الأوروبيون ثمنه توتراً شديداً في العلاقات الفرنسية – الأميركية حينذاك. ثم عوقبت فرنسا، بعد وصول جو بايدن إلى السلطة، بإلغاء صفقة غواصات لأوستراليا كان الفرنسيون يعتبرونها «صفقة القرن»، وقيمتها نحو 56 مليار يورو، لمصلحة غواصات أميركية.
خطة الخمسة الذين سيضمّهم اجتماع 6 شباط هي أن تتولّى فرنسا وقطر مهمّة الاتصال بطهران وجذبها إلى تسوية معينة في لبنان. وسيكون لقطر دور أساسي في هذا المجال، خصوصاً بعد نجاحها في الحصول على تغطية سياسية فرنسية وإيرانية لتكون شريكاً مع «توتال» الفرنسية و»إيني» الإيطالية في التنقيب عن الغاز في البلوك 9. وقد كان لقطر دور أساسي في إبرام اتفاق الترسيم مع إسرائيل.
يريد الفرنسيون اتفاق طائفٍ أو دوحةٍ جديد يعيد تسيير البلد. وهم، إذ يمارسون الضغوط ويلوّحون بالعقوبات ضدّ إيران وحلفائها، فإنّهم يسعون إلى دفعها نحو التسوية في لبنان. لكن مشكلة باريس هي أنّها لا تمتلك أوراق الضغط الكافية لإجبار الإيرانيين على ذلك، وأنّها مضطرة دائماً إلى الاستعانة بالعصا الأميركية لتحقيق هذا الهدف، وهذا يقودها إلى الوقوع في الحضن الأميركي.
ولأنّ طهران تدرك محدودية الضغط الذي يمكن لباريس أن تمارسه، فإنّها قلما تستجيب للرغبة الفرنسية في تسهيل التسوية في لبنان. ولكنها ستستجيب إذا قدَّم الفرنسيون عرضاً يحقق لها المكاسب التي تريدها، والتي تحفظ نفوذ حلفائها. وهذا الاحتمال لا يبدو قريباً، على الأرجح. ولذلك، إنّ مفعول لقاء باريس سيبقى محدوداً، وكفة المواجهة ستبقى هي الراجحة حتى إشعار آخر.