كتبت لوسي بارسخيان في “نداء الوطن”:
وصلت المجالس البلدية المنتخبة بمعظمها في سنة 2016 الى نهاية ولايتها في سنة 2022 «على آخر نفس»، فكان وقع قرار التمديد عليها ثقيلاً. وقد جاء انعدام الموارد التي تسمح بإطلاق المشاريع الإنمائية ليمعن في تعميق الشرخ بينها وبين ناخبيها، ما وسّع لائحة المجالس المنحلّة، حتى بلغ مجمل عددها في آخر تحديث للوائح وزارة الداخلية مئة وأربع بلديات منحلّة، من أصل ألف وأربع وأربعين بلدية منتخبة على مختلف الأراضي اللبنانية، أي ما نسبته 10 بالمئة تقريباً.
في قانون البلديات الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 1181977 وتعديلاته، تنصّ المادة 23 على ما يلي: «يعتبر المجلس البلدي منحلاً حكماً إذا فقد نصف أعضائه على الأقّل أو حكم بإبطال انتخابه، وعلى وزير الداخلية أن يعلن الحلّ بقرار يصدر عنه بخلال مدّة أسبوع على الأكثر من تاريخ تبليغ وزارة الداخلية ذلك، وإلا اعتُبر سكوته بمثابة قرار إعلان ضمنيّ بالحلّ».
ولكن مع أنّ القانون نفسه نصّ بمادته الـ24 على وجوب انتخاب مجلس جديد في مهلة شهرين من تاريخ مرسوم الحلّ، على أن يتولّى أعمال المجلس البلدي حتى انتخاب المجلس الجديد، القائمقام أو رئيس القسم الأصيل في القضاء، والمحافظ أو أمين السرّ العام في مركز المحافظة، لم تدع الهيئات الناخبة في القرى التي خسرت بلديّاتها لانتخاب مجالس جديدة لها طيلة فترة ولايتها. فموعد إجراء هذه الإنتخابات الذي حدّد بتاريخ 27 تشرين الأول من سنة 2019 عطّلته الثورة التي إشتعلت في 17 تشرين، والأزمات التي توالت لاحقاً، من جائحة «كورونا»، الى الإنهيار المالي الإقتصادي، وشغور المؤسسات الدستورية، كلّها عوامل حمّلت القائمين بأعمال البلديات المنحلّة مسؤوليات فاقت واجباتهم وحتى إمكانياتهم أحياناً، ليأتي تأجيل انتخابات 2022 ويزيد الطين بلّة. فالإنتخابات البلدية تحتاج الى تخصيص ميزانيات مرتفعة والى تحضيرات لوجستية وأمنية وبشرية، وإلى أجواء بعيدة من التشنج، فيما الظروف التي رافقت ولاية المجالس البلدية الممدّد لها وصفت بالأسوأ، بل شكّلت ثورة 17 تشرين عاملاً بارزاً من عوامل حلّ بعض المجالس البلدية، خصوصاً مع انقلاب المشهد السياسي في بداية الثورة، وانطلاق شعار «كلّن يعني كلّن» بزخم حاول البعض إستثماره أيضاً في تصفية الحسابات مع البلديات، والتي كان معظمها حتى سنة 2019 خاضعاً لنفوذ الطبقة السياسية المغضوب عليها.
معارك مبكرة
وهذا ما فتح معركة الإنتخابات البلدية بالنسبة إلى بعض المدن والقرى منذ سنة 2019، ووضع أداء المجالس فيها تحت مجهر «ملاحقة الفساد والفاسدين»، ما أوقعها في مرمى الإنتقادات والإتّهامات، وصعّب صمودها حتى موعد الإنتخابات المفترض حصولها قبل 31 أيار المقبل، ولا سيّما مع توسّع الخلافات بين أعضاء المجالس البلديّة، أو بينهم وبين رؤسائها في معظم الأحيان.
عرسال وبرّ الياس في محافظة البقاع هما من بين أواخر المجالس البلدية التي حلّت في سنة 2022. إلّا أنّه في المقابل هناك مجالس بلديّة إعتبرت منحلّة منذ إتمام العملية الإنتخابية، وذلك إمّا لعدم ترشّح العدد الكافي من الأعضاء أو لعدم تقديم الأعضاء براءات الذمّة المطلوبة في الوقت المحدّد، أو نتيجة الطعن بصحّة الانتخاب فيها لدى مجلس شورى الدولة كبلديات سرعين التحتا، والكنيسة ونبحا في محافظة بعلبك. وهناك بلديات حلّت نتيجة الخلافات السياسية التي أفرزتها إنتخابات سنة 2018 النيابية كبلدية المنية – النبي يوشع في محافظة الشمال. وأخرى حلّت بعد اندلاع الثورة كبلدية الميناء في محافظة الشمال أيضاً. هذا الى جانب تولّي المحافظين والقائمقامين أيضاً مهمّات بلديات تأجّلت انتخاباتها بقرار من وزارة الداخلية تفادياً لحساسيات محلية، كما حصل مثلاً في تربل وجديتا وغيرهما، علماً أنّ القانون يجيز أيضاً حلّ المجلس البلدي بمرسوم، إذا ارتَكب مخالفات تمسّ بمصالح البلدة.
حالة جمود إنمائي
لا شكّ أنّ حلّ المجالس البلدية يوقع بلداتها في حالة جمود إنمائيّ، خصوصاً أنّ مهمّات تصريف أعمالها المسندة الى القائمقامين والمحافظين لا تتعدّى عتبة تأمين رواتب موظّفيها والحرص على استمرارية الخدمات الرئيسية، وتحديداً تلك المتعلّقة بجمع النفايات وتأمين نظافة البلدات. إلا أنّ وقع هذه الخسارة للمشاريع الإنمائية بقي محدوداً، مع تحوّل معظم المجالس القائمة أو غير المنحلّة، مجالس لتصريف أعمال بلديّاتها أيضاً، نتيجة تداعيات الأزمة الإقتصادية على ماليات معظم البلديّات وموازناتها.
في المقابل، تحمّل القائمون بأعمال البلديات المنحلّة عبء ملفّاتها الشائكة والتعقيدات الإجتماعية والسياسية وحتى المالية واللوجستية التي تسود في كلّ منها، من دون أن يملكوا سلطة ملء الفراغ بالنسبة إلى المرجعية المحلّية التي تشكّلها البلدية لسكان النطاق البلدي وأبنائه. فتظهّرت بعد حلّها الأخطاء في خيارات أبنائها ومعايير انتخاب ممثليهم في المجالس البلدية، ما خلّف شعوراً باليتم لدى أبنائها، وبحاجة بلداتهم لوصاية سلطة غير منتخبة.
محافظ البقاع
في حديثه عن طبيعة المهمّة التي يتولّاها القائمون بأعمال البلديات المنحلّة، يشرح محافظ البقاع كمال أبو جوده «أنّ أغلب الاجتهادات الصادرة عن مجلس شورى الدولة وهيئة التشريع والإستشارات تحدّد أنّ مهمة القائم بأعمال البلدية المنحلّة هي تولّي الشؤون الضرورية والمستعجلة، وذلك حرصاً على استمرارية المرفق العام البلدي خلال المرحلة الإنتقالية التي تفصل بين صدور قرار حلّ البلدية وتاريخ انتخاب مجلس بلدي جديد».
ويوضح أنّ «البلدية التي تُحلّ، تخسر الكثير من المشاريع الإنمائية التي تشكّل جزءاً من برنامج مجالسها وأفكارها في ترجمة طموحات أبناء البلدة الذين أمّنوا لها الفوز بالإنتخابات. فيما المحافظ القائم بأعمال البلدية، وإن كان يحرص على تسيير معاملات الناس، من تأمين إفادات المحتويات وإفادات براءة الذمّة وإعطاء التراخيص، يحاول في تسييره أمور البلدية تحاشي المسائل الخلافية، والتي تحتاج أحياناً الى إجماع يترجم عادة بقرارات المجلس البلدي».
في محافظة البقاع تولّى أبو جوده شخصياً مهمّات ستّ بلديات حلّت بمراحل متفاوتة، وقد أدار شؤونها بنفسه خصوصاً أنّ مركز أمين السرّ العام وهو موظف برتبة فئة ثانية، شاغر في مركز المحافظة.
في شرحه الفرق الذي يلمسه القائم بأعمال البلدية بين بلدية صغرى وأخرى أكبر منها، يقول أبو جوده إنّ الفرق هو بضغط المعاملات التي يتطلّبها المواطنون، وبالمشاكل التي قد تطرأ على صعيد الإنارة والصرف الصحّي وتأهيل الطرقات ولمّ النفايات والحفاظ على النظافة. ومن الطبيعي عندما تكون مساحة البلدة أكبر أن تكون هناك متطلّبات أكبر، وخصوصاً على صعيد صيانة الآليات المستخدمة للمّ النفايات ونقلها، وبالتالي هناك فرق في إعداد الموازنات التي توضع لهذه الأعمال ولدفع رواتب الموظفين.
محافظ بعلبك
في المقابل، يشرح محافظ بعلبك بشير خضر الذي يقوم حالياً بأعمال 9 بلديّات منحلّة، قائلاً إنّ هذا الأمر يشكّل عبئاً إضافياً على المحافظ في وقت تحتاج البلديات بحدّ ذاتها إلى تفرّغ. ومن هنا يعتبر خضر «أن الإنتخابات وإجراءها مسألة بديهية ولسنا بحاجة لشرح أهمّيتها بالنسبة لملء الشغور في البلديات المنحلّة، ومن حقّ الناس بعد ست سنوات من تحميلها المسؤولية أن تحاسب المجالس البلدية وتعيد حساباتها في خياراتها ومعايير انتخابها وخصوصاً بالنسبة للبلديات التي حُلّت».
ولكن إذا كانت سنة 2022 قد سجّلت أكبر نسبة من البلديات المنحلّة، فإنّه قد فرض على المحافظين بالمقابل السير بين الخطوط لتفادي الحساسيات التي يمكن أن تفجّرها الخلافات العائلية المستحكمة ببعض البلديات. بلدية برّ الياس هي واحدة من تلك البلديات، والتي على رغم حجم العمل الكبير الذي تتطلّبه نتيجة لما تحضنه الى جانب أهلها اللبنانيين من أعداد النازحين السوريين والمهجرين الفلسطينيين، لم يتمكّن مجلسها من الحفاظ على الثقة التي منحه إيّاها الناخبون في انتخابات سنة 2016، وجاءت استقالة أكثر من نصف أعضائه لتطيح بالمجلس ورئيسه، بعدما فجّرت بوجه البلدية أيضاً الملفات القضائية المتعلّقة بإدارة مستوصفها الطبي.
عرسال أيضاً تعدّ من ضمن تلك البلديات التي انضمّت الى لائحة البلديات المنحلّة في سنة 2022. ومن يتابع التاريخ الأمني للبلدة التي تضمّ النزوح السوري الأكبر على مستوى لبنان، قد يتخوّف من أن يؤدّي حلّ بلديتها الى إشاعة الإعتقاد بأنّها أصبحت أرضاً مباحة للجميع. وهنا يتحدّث خضر عن حجم العبء والمسؤولية اللذين يتحمّلهما المحافظ في إدارة مثل هذه البلديات. وفي حالة عرسال تحديداً يقول خضر «نتابع عن قرب عمل المنظمات والجمعيات كي لا يعتقد البعض أنها باتت مكاناً للتسيب، وعلى المنظّمات أن تحصل على أذونات مسبقة بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية ومخابرات الجيش اللبناني للقيام بأي نشاط. ولكن هذا كلّه يكون على حساب وقتنا، إنطلاقاً من المسؤولية التي نتحلّى بها، وخصوصاً بعدما فقدت رواتبنا كما سائر الموظفين قيمتها».
ولكن إذا كان القانون هو الذي يحدّد طبيعة العلاقة التي تحكم علاقة المحافظ بالبلديات المنحلّة وحقوق مكلّفيها بعد حلّ مجالسهم، ثمّة شخصيات جدلية بين المحافظين، تشكّل إستفزازاً للبيئة التي تسيّر شؤونها حتّى في ظل وجود المجالس البلدية، فكيف الحال عند حلّها؟
عندها قد لا يتمتّع المحافظ بالمرونة نفسها التي تحكم على سبيل المثال، علاقة محافظي البقاع وبعلبك مع بلديات منطقتهما. وهذه هي الحال تحديداً في محافظة الشمال، التي شكّلت نسبة البلديات المنحلّة فيها ثالث أكبر نسبة على مستوى لبنان، فيما محافظها (رمزي نهرا) يشكل شخصية جدلية لم تنسجم معه بيئة المجتمع الذي عليه الإستجابة لقضاياها. فيشرح الناشط بالتنمية الحضرية في بلدة المنية – النبي يوشع محمد الذهيبي، أنّ العلاقة مع المحافظ لم تكن موفّقة خلال تجربة حلّ بلدية المنية، لأنّ المحافظ بالأساس مُقلّ في حضوره إلى المحافظة، ما يؤدي إلى تراكم الملفّات والحاجة بالتالي إلى وقت طويل للإستجابة وإبداء الرأي فيها. ربّما يعتقد البعض أنّ الإشكاليات التي رافقت حلّ البلديات يجب أن تكون أمثولة كافية ليحسن الناس اختيار من يديرون شؤونهم الإنمائية المحلية، ولكن هذا طبعاً لن يحصل. فما إن تطلق إشارة المعارك الإنتخابية حتى تُبعث مجدّداً العصبيات العائلية والأنانيات الممهورة بصبغة سياسية، لتمهّد في بعض القرى لمرحلة جديدة من البلديات المنحلّة. ومع ذلك يبقى هذا التداول للسلطة المحلية الإنمائية ضرورياً لضخّ ولو بعض الحيوية في العجلة الإنمائية للقرى والمدن اللبنانية.