كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
تختلف الدعوات لتغيير أي نظام سياسي بين الدعوات التي لها الطابع الأيديولوجي سعياً إلى تبديل دور لبنان، وبين الدعوات التي لها الطابع الشعبي بحثاً عن نظام يحقِّق الاستقرار والازدهار ويوفِّر مستلزمات العيش الكريم.
من سخريات القدر ان يتحوّل المطالِب بتغيير النظام إلى متهّم يُسيء إلى الوحدة الوطنية، فيما الفريق الذي يرفض تطبيق ااتفاق الطائف منذ إقراره في العام 1989 يسرح ويمرح ويُزايد بشعارات الوحدة التي يُمعن بضربها. ولم تأت الدعوات لتغيير النظام من فراغ، بل سببها الوضع الكارثي الذي انزلق إليه لبنان، ومحاولة الناس البحث عن المخارج الكفيلة بإعادة الحياة إلى طبيعتها.
وتكثر في هذه الأيام الدعوات لتغيير النظام السياسي كردّ فعل بديهي وطبيعي على ما آلت إليه أوضاع الدولة المتحلِّلة والناس التي أصبح معظمها تحت خط الفقر ولا تفكِّر سوى بالهجرة، وبالتالي هذه الدعوات هي صحّية لا مرضية بحثاً عن وطن آمِن ومستقر، وهذا حقّ من حقوق كل مواطن لبناني، وماذا يتوقّع البعض مثلاً من اللبنانيين بعد الذي أصابهم من جرّاء عدم تطبيق اتفاق الطائف وانهيار أوضاعهم المالية والمعيشية والصحية؟
ومن الخطأ وَضع الملامة على الناس والتعامل مع النتيجة بدلاً من البحث عن السبب أو الأسباب التي حوّلت لبنان إلى دولة مارقة ومنكوبة، ومن البديهي ان تعتبر شريحة من الناس انه من خلال تغيير النظام السياسي يستعيد لبنان استقراره وازدهاره، حيث ان المشكلة كانت وما زالت في الفريق الذي يرفض تطبيق الدستور وقيام دولة ويريد من اللبنانيين التسليم بازدواجية السلاح التي تُبقي لبنان ساحة صراعات مفتوحة.
والمسألة ليست مَن مع اتفاق الطائف ومَن ضدّه، إنما المسألة المطروحة تتعلّق في كيفية الخروج من مستنقع الفشل ودوامة الانهيار، خصوصاً انّ التمسُّك بالطائف لم يبدِّل في مسار الأحداث ولا في طبيعة الأوضاع، وهل كان معظم من يطالب بتغيير النظام في هذا الوارد لو كان هناك دولة واستقرار وازدهار؟
بالتأكيد كلا، لأنّ المطالبات تتعلّق بالحاجات وهي تعبير عن وجع وغضب ورفض الاستمرار في واقعٍ من دون أفق، خصوصاً انّ عدم تطبيق اتفاق الطائف ليس مُستجداً، إنما بلغ عمره 33 عاماً، أي منذ إعلانه، ولا خروج الجيش الإسرائيلي ولا خروج الجيش السوري بَدّل قيد أنملة في استراتيجية الفريق الذي يريد إبقاء لبنان ملحقاً بإيران.
وهناك اختلاف بين المطالبات اليوم بتغيير النظام، وبين المطالبات بتغييره قبل الحرب وإبّانها عندما كانت إسلامية بمعظمها تحت عنوان المساواة على رغم الاستقرار الذي كان ينعم به لبنان قبل الحرب، فيما الدعوات اليوم مسيحية وإسلامية ولا تتعلّق بصلاحيات ومساواة وتعديلات لمصلحة فئة على حساب أخرى، إنما كل الهدف منها تحقيق الاستقرار والخروج من حالة الحرب الباردة إلى العيش بسلام وأمان.
وهنا يجدر التمييز بين أمرين: بين المطالبة المشروعة بتغيير نظام لم يطبّق في شقه الأساسي المتعلِّق بدور الدولة السيادي، وبين انّ الفريق الذي لم يطبِّق اتفاق الطائف لن يقبل بأي نظام سياسي جديد يُعيد الاعتبار إلى دور الدولة، لأنّ مشكلة هذا الفريق ليست مع الطائف بحدّ نفسه، إنما مع اي نظام يحسم ازدواجية السلاح ويكرِّس دور الدولة.
والدعوات إلى تغيير النظام ليست موجهة ضدّ القوى المتمسّكة باتفاق الطائف، ومن الخطأ تحويل المواجهة بين من يتمسّك بالطائف وبين مَن يدعو إلى نظام جديد، لأنّ كلاهما ضحية الفريق الذي انقلب على وثيقة الوفاق الوطني ويحول دون قيام دولة فعلية، وبالتالي المواجهة يجب ان تبقى دائماً ضد فريق الممانعة.
ولا بل على الفريق المتمسِّك بالطائف ان يستفيد من المواقف الداعية إلى تغيير النظام من أجل تحذير الفريق الممانع بأنّ عدم التزامه بالدستور سيقود إلى مزيد من التململ الشعبي وارتفاع منسوب المطالبين بتغيير النظام وانّ هذا التوجُّه مرشح لأن يكبر ككرة الثلج، خصوصاً انّ الأوضاع لم تعد تُطاق والرأي العام لم يعد في وارد القبول بالأمر الواقع وانتظار تطورات قد تأتي وقد لا تأتي.
ومَن هو قادر على تطبيق الطائف فليطبِّقه من دون مزايدات على غيره، ومَن هو قادر على تغيير النظام فليغيِّره من دون مزايدات على غيره، ومن يمنع تطبيق الطائف وتغيير النظام هو نفسه. ولذلك، فإن المواجهة يجب ان تكون ضد هذا الفريق، فضلاً عن تَكوّن قناعة بأنّ المواجهة تحت السقف أعطت كل ما لديها ولم يعد أمامها سوى انتظار تحولات الخارج، وليس من المصلحة البقاء في ردّ الفعل وترداد اللازمة نفسها التي اعتاد الخصم عليها، لأنه لو «بَدّا تشتي غَيّمت»، فلا الطائف سيطبّق ولا القرارات الدولية ستنفّذ.
ومن المفيد العودة إلى التجارب الصراعية السابقة التي كان يدعو فيها أحد الأطراف إلى إلغاء الطائفية السياسية، والردّ عليه لم يكن بالدعوة إلى التمسُّك بالدستور الذي كان قائماً، إنما بالدعوة إلى العلمنة الشاملة التي يدرك انّ الفريق الآخر لا يمكن ان يوافق عليها، أي على طريقة «الرطل بدّو رطل ووقية»، والدعوات إلى الكونفدرالية مع سوريا كان الردّ عليها بالفدرالية، وهكذا دواليك…
وما يُفترض أخذه في الحسبان انّ الفريق الممانع بشقّيه السوري بداية ومن ثم «حزب الله» غير منزعج من الوضع القائم، بل يطبِّق الطائف على طريقته وبما يتناسب مع مصالحه، ويُزايد على الأصوات الداعية إلى تغيير النظام ويُخوِّنها، وينظِّر بالطائف وضرورة تطبيقه، ولكن بما انّ المواجهة معه على قاعدة انتهاكه للطائف استنفدت أغراضها بعد 18 عاما على خروج الجيش السوري من لبنان، يُفترض اللجوء إلى تكتيك جديد في المواجهة بعنوان إما تطبيق الطائف كما أُقرّ، وإما المطالبة بتغيير النظام، وأهمية مطالبة من هذا النوع انها تؤدي إلى تغيير أوضاعٍ مُثلّث:
تؤدي أولاً إلى تجييش شعبي كبير بعنوان جديد ومواجهة جديدة في ظل رتابة المواجهة الحالية التي أصبح سقفها معروفاً، وبيّنَت الأحداث ان لا قدرة لهذه المواجهة على تجاوز السقف القائم.
تؤدي ثانياً إلى احتقان سياسي شبيه بالاحتقان الذي رافَق صعود 14 آذار وخدم أغراضه، وأصبح هناك حاجة لعنوان جديد يفرز اللبنانيين على أساسه، خصوصاً ان المواجهة بين عنوانَي دولة ودويلة حقّق أقصى ما يمكن تحقيقه.
تؤدي ثالثاً إلى إقحام الخارج في المواجهة الجديدة إمّا لتطبيق الطائف والقرارات الدولية، وإما بالدعوة إلى مؤتمر دولي من أجل إعادة النظر بالتركيبة اللبنانية برمّتها، لأنّ المطلوب إقحام المجتمع الدولي، ومن دون إقحامه لا حلّ للأزمة اللبنانية التي سببها إيران، وهذا الإقحام لا يمكن حصوله بمواجهة كلاسيكية لأنه لو «بَدّا تشتّي كانت غَيّمت»، إنما حان الوقت للفت نظره وإشعاره انّ الوضع اللبناني لا يمكن إهماله ولا التعامل معه بأنّ وضعه يَحتمِل التأجيل والانتظار، فيما الشعب اللبناني خسر كل شيء ولم يعد يقوى على الانتظار.