كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
أكثر الذين يعرفون ما يجري في ملف الرئاسة هو الرئيس السابق ميشال عون نفسه. ولذلك، هو صامت تماماً، وكأنّه أصبح خارج المسرح. لكنه، على الأرجح، «سيبقُّ البحصة» ذات يوم.
لا يستطيع عون أن يبلع الخيبة التي أُصيب بها، في الحصول على ما يطلبه من «حزب الله». والمسألة لا تتعلق تحديداً بتفضيل سليمان فرنجية على جبران باسيل، بل تعود إلى ما قبل ذلك، إلى علاقة «الحزب» بعون نفسه، في نهايات ولايته.
قبل أشهر من 31 تشرين الأول 2022، بدا عون واثقاً في أنّ الأمور ستسير وفق ما يريد. وفي شكل واضح، تجرّأ على القول إنّه لن يغادر قصر بعبدا إلّا في الظروف التي يكون مقتنعاً فيها بهذه المغادرة. فكان يقول إنّه لن يسلّم القصر للفراغ. والتفسير الوحيد لهذا الكلام هو الآتي: سأبقى في الموقع إلى أن أضمن انتخاب باسيل خلفاً لي.
بل إنّ القريبين من عون كانوا يقولون إنّه جهَّز تماماً كل الاجتهادات الدستورية التي تسمح له بالبقاء في الموقع لفترة معينة، تحت عنوان الضرورة والظروف الاستثنائية وتسيير المرفق العام. وقد شعر عون دائماً بأنّه موجود في «المكان الآمن» ما دام يحظى بدعم «الحزب».
وعندما كان يرفع السقف في وجه الرئيس نجيب ميقاتي، في المحاولات لتأليف حكومة جديدة بعد الانتخابات، كان مطمئناً إلى أنّه سيبقى متحكّماً باللعبة. وطوال العهد، بقي عون يتلقّى دعم «حزب الله» في أي مواجهة مع أي رئيس للحكومة، أياً كان. ولم يكن يعتقد أنّ يوماً سيأتي ويتاح فيه لميقاتي أن يربح المعركة عليه، بدعم من «الحزب».
كان عون مطمئناً إلى أنّ الرياح لا يمكن أن تجري إلّا كما تشتهي سفنه، حتى إنه فكَّر جدّياً بالبقاء في القصر. وقال صراحةً إنّه سيغادر القصر في 31 تشرين إذا كان «يوماً طبيعياً ولا أحد فيه يُضمِر الشرّ». وما كان يفكر فيه فعلاً عبَّر عنه قبل ذلك بالقول: «سأخرج من القصر عند انتهاء الولاية، ولكنني سأبقى إذا اتخذ المجلس النيابي قراراً باستمرار بقائي في الموقع».
لكن عون بقي يتجنّب إثارة الانطباع بأنّه «سيتمرّد» في نهاية العهد، ومخالفة الدستور الذي أقسم على أن يكون مؤتمناً عليه، لما لهذا الأمر من تداعيات سلبية داخلياً ودولياً. ولذلك، حاولت أوساط القصر أن تعطي كلام عون تفسيرات أخرى لعبارة «إنّه لن يسلِّم المنصب إلى الفراغ»، فقالت: «هو لا يقصد أنّه سيبقى في القصر، بل سيبذل جهداً لانتخاب رئيس قبل خروجه».
لم يكن عون آنذاك يطلق التلميحات من العدم، بل كان يستند إلى تحليله الخاص بأنّه سيتلقّى دعم «حزب الله» في أي خيار، وهذا كافٍ له. وكان مقتنعاً بأنه ما زال، كما كان، وسيبقى، هو و»التيار الوطني الحر»، الحليف المسيحي المدلَّل لدى «حزب الله»، وأنّ «الحزب» ليس في وارد التخلّي عنه لا لاعتبارات التحالف «المبدئية» فحسب، بل أيضاً لاعتبارات مصلحية. فـ»الحزب» بتحالفه مع عون و»التيار» يوفّر لنفسه الغطاء التمثيلي المسيحي في شكل ثابت.
طبعاً، يدرك عون أنّ «الحزب» لا يمكن أن يخدع رئيس «المردة» سليمان فرنجية أو أياً كان عندما يتبنّى ترشيحه للرئاسة، خصوصاً بعد دعوة فرنجية وباسيل إلى لقاء إفطار على مائدة الأمين العام السيد حسن نصرالله قبيل الانتخابات النيابية. لكن عون بقي مقتنعاً دائماً بأنّ «حزب الله» لن يتبنّى ترشيح فرنجية ما لم يعلن عون وباسيل رضاهما. فإذا أصرّا على الرفض، سيبدّل «الحزب» موقفه ويختار باسيل في النهاية.
بقي عون مقتنعاً دائماً بأنّ خياره التحالفي مع «حزب الله» سيدوم لألف سبب وسبب، وأنّ «تفاهم مار مخايل» لا يُحرق ولا يُغرق. ولذلك، هو ذهب حتى النهاية في تقديم كل الدعم لـ»الحزب» خلال ولايته وقبلها، وأحرق كل المراكب مع الداخل والخارج دفاعاً عنه، واحترقت صورة باسيل شخصياً لأنّه وقف مع «الحزب» بلا تحفظ، فيما كان فرنجية يحافظ على «خطوط الرجعة» مع الجميع. ولذلك، يعتقد عون أنّ من غير المنطقي أن يساهم «الحزب» في إحراق باسيل بدل «مكافأته».
واليوم، يلتزم عون الصمت الكامل، وكأنّه غير موجود على الساحة. ولم يُنقَل عن لسانه سوى بعض كلام العتب القاسي تجاه «الحزب» قبل فترة. والصمت يعود إلى أسباب عدة:
1- لأنّه لا يريد إحراق رصيده مع «الحزب» بالدخول في مهاترات معه.
2- لأنّه ما زال مقتنعاً بأنّ «الحزب» يمكن أن يبدّل موقفه ويتبنّى ترشيح باسيل.
3- لأنّه فعلاً يعيش تحت تأثير سلسلة صدمات:
– الأولى هي موقف «الحزب» الذي لم يحاول ابتداع صيغة دستورية عبر المجلس النيابي، تسمح له بالبقاء في بعبدا، على رغم من أنّ انتخاب رئيس جديد للجمهورية بدا متعثراً.
– الثانية هي أنّ «الحزب» سمح لميقاتي بكسب المعركة وانهزام عون، بل وفّر له التغطية الكاملة لممارسة أعمال مجلس الوزراء في ظل الشغور في موقع رئيس الجمهورية، وهو أمر لم يتوقع عون حدوثه.
– الثالثة هي أنّ «الحزب» لم يُبدِ أي ليونة تجاه باسيل حتى اليوم، وما زال متمسّكاً بفرنجية، علناً على الأقل.
– الرابعة هي دعم «الحزب» لخيارات خصوم عون، أو سكوته عنها على الأقل والسماح بإمرارها.
ذات يوم، سيضطر أحد طرفي التفاهم إلى التنازل للآخر. وسيظهر من هو على حقّ في رهانه: عون أو «الحزب». وكما يُقال، الحق دائماً «مع الأقوى».
والأقوى هو بالتأكيد «حزب الله»… إلاّ إذا كان «الحزب» لا يريد رئيساً للجمهورية حتى إشعار آخر. وحتى ذلك الحين، لكل حادث حديث… ولكل مرحلة حليف ولكل جمهورية مرشح، قد يكون فرنجية أو باسيل أو أي «حليف» آخر قد يولد فجأة.