كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
منذ أن تولّت حكومة اليمين مقاليد الحكم في إسرائيل، عاد الجنوب إلى واجهة الأحداث، ومعه الهواجس من عودة السخونة، بعد فترة طويلة من التبريد. وهذا ما يدفع إلى السؤال عمّا يخطط له بنيامين نتنياهو ورفاقه: هل يريدون العودة بعقارب الساعة إلى زمن التوتر والحروب والاجتياحات مع لبنان، أم يفتشون عن مفاوضات جديدة، أو دور لهم في زمن التبدلات الكبرى للموازين، بين الولايات المتحدة وروسيا والصين؟
يعتبر محللون أنّ اتفاق إيران مع المملكة العربية السعودية، بضمانة الصين، سيمنح الإيرانيين قوة كافية ليقولوا «لا» للولايات المتحدة فيما يتعلق بالملف النووي، ولكي يرفضوا المساومة على ما يمتلكونه اليوم من نفوذ في الشرق الأوسط. لكنه أيضاً سيسجل هدفاً قاسياً ضد إسرائيل لثلاثة أسباب:
1 – إبعاد الرياض عن مسار التطبيع مع إسرائيل، وتالياً فرملة الاندفاعة الخليجية التي كانت ناشطة وسريعة في هذا الاتجاه، في العامين الأخيرين.
2 – إقفال الطريق السعودية في وجه أي خطة عسكرية لضرب إيران. فبسبب بُعد المسافة، وحاجة المقاتلات إلى إذن بالمرور في الأجواء، وإلى منصة قريبة تنطلق منها، لا يمكن لإسرائيل تقنياً أن تقوم بشن حملات جوية مباشرة، من قواعدها، على المنشآت النووية الإيرانية. ويتحدث الخبراء عن حاجة الإسرائيليين، لهذه الغاية، إلى أجواء العراق أو تركيا أو السعودية، وإلى القواعد في أذربيجان.
وربما كان من دوافع السعوديين إلى تسريع التوافق مع طهران، بضمانة بكين، أن يتداركوا إصابتهم بالإحراج، إذا ما طلب منهم الأميركيون أن يسهّلوا مهمة إسرائيل ويفتحوا مجالهم الجوي أمام مقاتلاتها لضرب إيران. وهذه المغامرة تتجنّب السعودية أن تتورّط فيها بالتأكيد.
3 – جلبُ دولة عظمى، هي الصين، إلى ساحة بقيت حكراً على الولايات المتحدة طوال عقود، ولها فيها مركزان استراتيجيان هما: أمن إسرائيل ونفط الخليج.
وأيّاً تكن طرق المواجهة الأميركية لهذا الاتفاق، فإنّ الصين نجحت في استغلال انشغال إدارة جو بايدن بالحرب في أوكرانيا لتتسلل عملياً إلى داخل هاتين النقطتين في الشرق الأوسط وتثبّت موطئ القدم الأولى في مسار التنافس السياسي والعسكري مع الأميركيين، بعدما اقتصر التنافس على الاقتصاد والتنمية.
وهذا «القضم» السريع للنفوذ في الشرق الأوسط، يمكن أن يمنح الصين هامش التقاط اللحظة المناسبة، واللجوء لاحقاً إلى مبادرةٍ خطرة تُتْعِب الأميركيين في تايوان.
إذاً، ماذا سيفعل الإسرائيليون إزاء هذا التسلل الصيني القوي إلى الملعب الإقليمي؟ هل سيشاركون واشنطن والحلفاء في الأطلسي سعيهم إلى إحباط هذا التسلل، بكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك العسكرية؟ أم سيبحثون عن مصالحهم و»يدبّروا رأسهم» لأنّ الدخول الصيني إلى المنطقة أصبح واقعاً لا مفر منه، ولأن العودة إلى الوراء صارت أمراً مستحيلاً؟
في الدرجة الأولى، ليست الولايات المتحدة في صدد القيام بأي عمل عسكري في الشرق الأوسط حالياً، لا ضد إيران ولا ضد الصين. ولذلك، لن تجد إسرائيل شريكاً لها في أي مغامرة عسكرية. وعلى الأرجح، سيختار الإسرائيليون السبيل الآخر، وهو ضمان مصالحهم الخاصة. وفي العادة، هم يفعلون ذلك بلا تردد.
للتذكير، الإسرائيليون ساروا حتى اليوم أشواطاً بعيدة في الشراكة الاقتصادية والتنموية مع الصين، إلى حد استفزاز الأميركيين. وفي عهد الرئيس دونالد ترامب، أطلقت واشنطن تحذيرات متتالية لإسرائيل من مغبة التعمّق في الشراكة الاقتصادية مع الصين الساعية إلى وضع إسرائيل والشرق الأوسط بكامله ضمن مشروعها «الحزام والطريق».
وإسرائيل هي اليوم أكبر شريك تجاري للصين في آسيا، وثالث أكبر شريك تجاري لها في العالم. إذ بلغ التبادل التجاري بين البلدين في العام الفائت قرابة 10.71 مليارات دولار. وإسرائيل مرشحة لتصبح الشريك التجاري الأول لإسرائيل، وبما يتجاوز الولايات المتحدة. وهذا أمر يستفزّ واشنطن بقوة.
وثمة اتفاقات مبرمة بين الطرفين، لعقود عدة، تتضمن مشاريع لتطوير مرفأي حيفا وأشدود، وإقامة سكة حديد من إيلات إلى أشدود، تشكل ربطاً بين الخليج العربي والمتوسط، بوابة إسرائيل على أوروبا. والأخطر، بالنسبة إلى الأميركيين، هو الاتفاقات ذات الطابع التكنولوجي والعسكري بين إسرائيل والصين، والتي لقيت اعتراضاً شديداً من الجانب الأميركي.
إذاً، لا تجد إسرائيل مشكلة في مجيء الصين إلى الشرق الأوسط. وعلى العكس، هي ستساوم الولايات المتحدة وتقبض الأثمان كي تحافظ على موقعها كولد مدلّل، كما ستساوم الصين للغاية نفسها. وما يعني إسرائيل في الدرجة الأولى هو نفوذها الإقليمي الذي لا ينافسها عليه أحد سوى طهران. ومن الممكن أن يبدو نتنياهو غاضباً، وأن يخترع سيناريوهات الخوف من حلفاء طهران على الحدود الشمالية مع لبنان وفي الداخل مع «حماس»، كي يكسب تعاطف إدارة بايدن والغربيين، ولكنه لا يرغب في خوض الحرب.
على الأرجح، هو لا يريد التصعيد، بل التهويل. ومن قواعد القتال أن مَن يهوّل لا ينفّذ. وقد يبلغ التوتر مداه ليتحول اصطداماً عسكرياً بأشكال محدودة، لكن المطلوب أن ينتهي بالتفاوض. وفي الفترة الأخيرة كثر الحديث عن رغبة الإسرائيليين في ترسيم الحدود براً، برعاية أميركية، بعد ترسيمها بحراً في الخريف الفائت.
آنذاك، شنّ نتنياهو ورفاقه حملة واسعة على حكومة يائير لبيد متّهمين إياها بالاستسلام لمطالب إيران وحلفائها. لكن الحملة كانت للمزايدة الانتخابية لا أكثر. وكان ردّ اليساريين: لو كان نتنياهو مكاننا لوافقَ على الاتفاق إيّاه!
فهل تُقرع الطبول جنوباً من أجل مفاوضات جديدة؟