كتب طارق ترشيشي في “الجمهورية”:
خلافاً لكل ما قيل ويُقال، نعم كان «الثنائي الشيعي» على علم مسبق بصيرورة المفاوضات السعودية ـ الايرانية، إلى اتفاق حتمي على تطبيع العلاقات بين الرياض وطهران، فيما كان الفريق الآخر بكل تلاوينه لا يعلم شيئاً، سوى انّ هناك مفاوضات قد تتوصل إلى اتفاق او لا تتوصل، وربما كان يظن انّها ستفشل..
تجزم اوساط مطلعة على موقف «الثنائي الشيعي»، انّ معالم الاتفاق السعودي ـ الايراني كانت تُظهر خلفية المواقف التي يعلنها رئيس مجلس النواب نبيه بري في مناسبات متعددة، وكذلك في خلفية بعض المواقف التي يدلي بها الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله منذ اشهر. ما يدلّ إلى انّ الرجلين لم ينطقا من هوى، وانما من وحي حدث مُنتظر توافرت لديهما المعطيات عنه، ولكن الضرورة كانت تقتضي كتمانه لضمان ولادته في سلام.
فالرئيس بري، تقول هذه الأوساط، كان دوماً ولا يزال داعية حوار بين العرب وايران، مشدّداً على قيام أمتن العلاقات بين الدول العربية قاطبة والجمهورية الاسلامية الايرانية، وتحديداً بين السعودية ومعها بقية دول الخليج العربي. ولكن اللافت كان اغتنامه اخيراً مناسبة افتتاح المبنى الجديد للسفارة الايرانية في بيروت، ليفاجئ الجميع بموقف وكأنّه يخرج به عن النص الذي كتبه للمناسبة، متوجّهاً إلى الحاضرين قائلاً حرفياً: «..وبعد اسمحوا لي أن أؤكّد: أولاً: نتطلع بأمل كبير في أن يكون هذا اليوم الذي ندشن فيه مبنى جديداً للسفارة الإيرانية في بيروت بارقة أمل ليس ببعيدة، نحتفل فيه بعودة العلاقات بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع محيطها العربي والإسلامي، وخصوصاً مع المملكة العربية السعودية في سياقها الطبيعي، إنني ولطالما ناديت بأهمية هذه العلاقات وضرورة تطبيعها وتطويرها، بما يحفظ لكل دولة أمنها واستقلالها وسيادتها وخصوصيتها ومصالحها المشتركة. اليوم أجدّد الدعوة والمناشدة من أجل تأمين كافة المناخات الملائمة لإنجاح المساعي الطيبة التي تُبذل في هذا الإطار، لا سيما من جانب الحكومة العراقية، من أجل رأب الصدع في العلاقة وعودتها إلى ما كانت عليه. إن قدر الأمة ومنعتها وتقدّمها واستقرارها وازدهارها واكتمال بدرها الإسلامي المسيحي في سماء العروبة، وبزوغ فجر فلسطيني جديد، بأمسّ الحاجة لهذه العلاقات الأخوية والضرورية التي لا خيار لنا إلّا أن تكون جيدة وراسخة».
اما السيد نصرالله، تضيف هذه الاوساط، وانطلاقاً من علمه بمآلات العلاقة بين الرياض وطهران، فقد دأب منذ اشهر على عدم اطلاق أي مواقف سلبية إزاء المملكة العربية السعودية. وعندما سُئل في «حوار الاربعين» مع قناة «الميادين» عن المشكلة بينه وبين الرياض، اكّد انّها محصورة بالموقف من اليمن فقط، وانّ لا خلاف معها على اي شيء آخر. وبعد هذا الحوار لم يُسجّل للسيد نصرالله أي مواقف تهاجم القيادة السعودية، وذلك لعلمه بالمراحل التي بلغتها المفاوضات السعودية ـ الايرانية التي كانت تجري في كل من بغداد وسلطنة عمان، وإلى جانبها المفاوضات الجارية بين السعوديين وحركة «انصار الله» الحوثية اليمنية.
على انّ الاوساط المطلعة نفسها تؤكّد انّ اعلان بري ونصرالله في مناسبتين تفصل ايام بينهما، عن دعمهما ترشيح رئيس تيار»المردة» سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، انما استند في الأساس إلى معطيات متينة لديهما عن انّ الاتفاق حاصل حتماً بين الرياض وطهران، سواء كان برعاية الصين ام برعاية عمانية او عراقية، مع العلم انّ تأييدهما لفرنجية معروف، ليس الآن وانما هو تاريخي منذ زمن طويل سابق على انتخاب الرئيس ميشال عون في تشرين الاول 2016، فالرجل كان مرشحهما الدائم لرئاسة الجمهورية منذ ايام الحقبة السورية ولا يزال حتى اليوم، ولا تراجع لديهما عنه.
وفي هذا السياق تستغرب هذه الاوساط، كيف انّ بعض القوى السياسية تأخذ على «الثنائي الشيعي» هذا الترشيح، وعلمه او عدم علمه المسبق بـ»اتفاق بكين». فتأييدهما لفرنجية كان قبل هذا الاتفاق، وهو مستمر بعده، ويجد في «اتفاق بكين» «زيت على زيتون»، بمعنى انّه يرفع من حظوظ فرنجية الرئاسية بنسبة عالية جداً.
وترى هذه الاوساط، انّ ترشيح الثنائي لفرنجية معطوفاً على «اتفاق بكين» وتداعياته التي بدأت بالظهور، ربما أقلق اوساط كبيرة في صفوف القوى السياسية المعارضة لرئيس تيار «المردة»، خصوصاً في ظلّ عدم الوضوح، او الرمادية التي تتصف بها مواقف العواصم المعنية مباشرة او مداورة بـ»اتفاق بكين»، الذي ستكون أولى ثماره إنهاء حرب اليمن، بما ينعكس برداً او سلاماً على المنطقة برمتها ومن ضمنها لبنان، حيث انّ تقديرات بعض القيادات السياسية تشير الى انّه سيحظى قريباً بانتخاب رئيس جديد.
كما انّ بعض هذه القوى المعارضة تخشى من ان يأتي «اتفاق بكين» وما سيطلقه من تسويات للأزمات الاقليمية على حسابها، خصوصاً بعدما اعلنت مواقف وشروطاً باتت اسيرة لها، وصارت كمن صعد إلى أعلى الشجرة، وبات يحتاج إلى من ينزله عنها حتى لا يقع منها او يبقى وحيداً فوقها إلى ان تخور قواه فيسقطً ارضا.
والملاحظ انّ هذه القوى التي تجتهد في تفسير المواقف من الاستحقاق الرئاسي بعد «اتفاق بكين» ولا سيما منها الموقف السعودي، تصبّ جام غضبها على «الثنائي الشيعي» وعلى فرنجية، متحدثة عن وجود «فيتو» سعودي عليه، وانّ المملكة لن تتراجع عنه، فيما المسؤولون السعوديون ينؤون بأنفسهم عن أسماء المرشحين، ويتحدثون عن المواصفات الواجب توافرها بالرئيس العتيد، معتبرين انّ امر اختيار هذا الرئيس هو شأن داخلي، بدليل ما قاله وزير الخارجية السعودي الامير فيصل بن فرحان من دعوة واضحة لا لبس فيها، إلى تلاقٍ لبناني ـ لبناني على إنجاز الاستحقاق الرئاسي وعدم ربط ذلك بالاتفاق السعودي ـ الايراني.
كذلك الملاحظ، انّ هذه القوى لا تتوانى عن التوقف عند كل صغيرة وكبيرة، وكأنّها تريد تعكير صفو «اتفاق بكين»، وكذلك التعكير على فرنجية ودعم «الثنائي» لترشيحه، إذ يبدو انّها تخشى من ان يصبّ ذلك الاتفاق في مصلحته، وربما تكون خشيتها هذه في محلها، على رغم انسياقها مع المواقف التي اعلنها رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط من الكويت ودعا فيها إلى انتخاب رئيس توافقي لا رئيس تحدٍ، واعتقادها انّ هذا الموقف يعكس بنحو غير مباشر مناخ الموقف السعودي، خصوصاً انّ جنبلاط كان التقى السفير السعودي وليد البخاري قبل ان يسافر الاخير على عجل قبل ايام الى بلاده، لينتقل منها مع المستشار في الديوان الملكي الدكتور نزار العلولا إلى باريس، للاجتماع مع الفريق الفرنسي المسؤول عن الملف اللبناني، وهو اجتماع جاء بعد ايام من زيارة وزير الخارجية السعودي للعاصمة الفرنسية.
وفي اعتقاد مطلعين، انّ هذه القوى المعارضة تتصرف على اساس أنّ جنبلاط يقصد فرنجية في حديثه عن «رئيس التحدّي»، في حين انّ فرنجية يطرح نفسه مرشحاً توافقياً، وهو كذلك في نظر داعمي ترشيحه وآخرين، ولا يعترض عليه علناً حتى الآن الّا «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر»، مع العلم انّه كان سامح الجميع منذ سنين عمّا مضى، ولا سيما منهم «القوات» وقيادتها، التي فتح صفحة جديدة معها.
فماذا عدا مما بدا حتى تنبري إلى شن الحملات عليه، رافضة وصوله إلى الرئاسة، معتبرة ايّاه مرشح فريق معيّن، فيما هو يحظى بتأييد واسع وطنياً، وبالمعنيين المسيحي والاسلامي. فالمسيحيون ليسوا «التيار» و»القوات» فقط، وكذلك بقية القوى الاسلامية والمسيحية، لا يمكنها اختزال طوائفها بنفسها او احتكار تمثيلها في كل مستويات السلطة. فمثلما هناك نواب مسيحيون محازبون لـ»التيار» و «القوات»، هناك نواب مسيحيون آخرون مستقلون وغير مستقلين، لديهم خياراتهم، والامر نفسه ينطبق على بقية الأفرقاء ولو بنسب متفاوتة.
في اي حال، هي معركة انتخابات رئاسية، ويحق لكل فريق ان يستخدم كل الوسائل السياسية والديموقراطية التي يراها مناسبة لإيصال مرشحه ومنع وصول منافسه. ولكن المهم انّ أبرز ثمرات «اتفاق بكين» انّه بدأ يُعجّل الخطى لإنجاز الاستحقاق الرئاسي في وقت قد لا يتوقعه كثيرون..