كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
لعل أخطر ما يتعرض له اللبنانيون اليوم هو اكتمال الاقتناع في المحافل الإقليمية والدولية بأنهم لم يبلغوا سن الرشد، وبأنهم ليسوا مؤهلين لإدارة أنفسهم بأنفسهم. وهذا يعني للبعض أنّ خروج سوريا من لبنان في العام 2005 ربما يكون «خطأ» يجب تصحيحه باستعادة أحد أنواع الوصاية على لبنان.
أوحى الانهيار اللبناني المتمادي، حيث تظهر الطبقة السياسية الحاكمة في وضعية العجز الكامل، بأنّ هناك أمراً لا بدّ أن ينتظره لبنان في قعر انهياره السحيق.
اليوم، لبنان بلا رئاسة جمهورية وبلا حكومة فاعلة وبمجلس نيابي مشلول، وبمؤسسات عامة تتوقف الواحدة تلو الأخرى بسبب عدم قدرة الموظفين على بلوغ مراكز أعمالهم. وفي الواقع، ليس في الدولة ما يمارس نشاطه، ولو بالحد الأدنى، سوى الجيش والقوى الأمنية.
ولذلك، هناك خشية من لجوء بعض القوى التخريبية، في الداخل أو الخارج، إلى استغلال النقمة الشعبية الناتجة عن الانهيار المالي المريع والتضخم الهائل، فتقوم بتوتير الوضع الأمني تحقيقاً لغايات خارجية، ويصبح البلد مرشحاً للدخول في مرحلة مختلفة كلياً. وفي هذه الحال، سيكون على القوى المعنية بالملف اللبناني، من إقليمية ودولية، أن تبادر بنفسها إلى إنتاج تسوية للمعضلة اللبنانية ووقف التدهور.
في الدرجة الأولى، سيكون على هذه القوى تجنّب أن يشكل الانفلات الأمني خطراً يتجاوز الحدود شرقاً في اتجاه سوريا، أو غرباً لتسريب اللاجئين اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين في القوارب عبر المتوسط نحو شواطئ أوروبا. ولكن أيضاً وخصوصاً، لمنع أن يؤدي التدهور إلى المَسّ بأمن إسرائيل. فهذا الأمر ما زال يعتبره الأميركيون والغربيون عموماً خطاً أحمر.
حتى إن الصين، التي تعمل اليوم لتثبيت دورها كراعية للمصالحات من الشرق الأوسط أو أوكرانيا، ستحرص على تقديم ضمانة لإسرائيل بأنّ السلام هو مصلحة دولية ثابتة، وبأن مشروعها «الحزام والطريق» يستلزم سلاماً إقليمياً ودولياً في الدرجة الأولى. وعملياً، تتقاطع مصالح إسرائيل والصينيين على السلام والتطبيع في الشرق الأوسط، لأنّ المبادرة الصينية تقتضي ربط إسرائيل بالجوار العربي في إطار علاقات من حسن الجوار.
إذاً، لا يمكن لأحد أن يتوقع توقّف الانهيار اللبناني من دون أن يتغير لبنان بالكامل. وثمة من يعتقد أن هناك مَن يدفع البلد إلى الانهيار الأعمق قصداً، لفرض المعطيات الجديدة وتغيير الواقع، ذلك أنّ اللبنانيين سيستسلمون في النهاية ويرضخون لأي مشيئة إقليمية أو دولية تنهي عذابهم والجوع.
ويمكن اعتبار اجتماع الخمسة في باريس هو النواة التي ستتولى صياغة التسوية لاحقاً. ويمكن أن يتّسع هذا الاجتماع لقوى أخرى في ضوء المصالحات التي جرت أخيراً على الخط السعودي – الإيراني أو تلك التي هي قيد الإنجاز على الخط السعودي – السوري.
هذا يعني أن عملية إنضاج المخارج الجديدة في لبنان مرسومة مبدئياً، لكنها تحتاج إلى المزيد من الوقت وتكامل المعطيات لتنطلق. وحتى ذلك الحين، ستبتكر الأدمغة الخلاقة أساليب لتعميق الانهيار في لبنان، حتى تكون الساحة جاهزة لتطبيق التسويات التي يجري إعدادها. ويقول بعض الخبراء إنّ اللبنانيين، الذين يتم إقناعهم بفكرة أنهم عاجزون عن إدارة أنفسهم، سيضطرون إلى القبول مجدداً بأنواع من الوصايات الإقليمية أو الدولية.
القريبون من دمشق، في مرحلة وصايتها السابقة على لبنان، ما زالوا يعتقدون أنها ستستعيد نوعاً معيناً من الوصاية على لبنان في نهاية هذا الانهيار، ويكررون القول إن خروجها من لبنان في العام 2005 كان خطأ تمّ ارتكابه في لحظة دولية – إقليمية معينة، ويجب تصحيحه.
لكن خصوم دمشق يعتبرون أن هذه المرحلة انقضَت ولن تعود، وأنّ وصاية سوريا هي التي أتاحت لقوى السلطة الحالية أن تتحكّم بالبلد وتستبيح الدستور والقوانين وموارد الدولة حتى وقعَ الانهيار. وتالياً، إذا كانت هناك حاجة لنوع معين من «الوصاية»، مع التحفظ على التسمية، فيجب أن تكون مدروسة وتحترم سيادة لبنان ومصالحه، وتتم من خلال الأمم المتحدة، ولفترة محددة وبأهداف واضحة، وخلالها يتم بناء الدولة على أسس حديثة وعادلة وثابتة.
طبعاً، هناك انقسام في لبنان حول نوع الوصاية. ولكن على الأرجح، في النهاية، وفي خضم الفوضى والجوع والتفلّت، قد لا يعترض أحد على فكرة الوصاية في ذاتها. فيحبّذ البعض أن تكون سوريةؤ- إيرانية – شرقية، ويطالب البعض الآخر بأن تكون غربية – عربية – دولية.
إذا حصل تفاهم دولي – إقليمي بين الجبهتين «الشرقية» و»الغربية»، فيمكن أن تأتي الوصاية على لبنان مشتركة. وللتذكير، اتفاق الطائف هو أحد نماذج هذه الوصاية. ولكن، هل تكون هناك نماذج أخرى محتملة، بالتوافق أو بالتصارع بين القوى الخارجية الفاعلة؟
في عبارة أخرى، هل يتولى «الشرقيون» وصاية على بعض لبنان، و»الغربيون» مع حلفائهم العرب وصاية على البعض الآخر؟ وماذا سيعني ذلك بالنسبة إلى مستقبل لبنان؟