كتب عبد الهادي النجار في “الشرق الأوسط”:
يواجه العالم حالياً أزمة غذاء واسعة وصفها البعض بأنها الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية. ويحذر «المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية»، من أن أسعار المواد الغذائية ستواصل ارتفاعها هذه السنة، ما لم يكن هناك إعفاء كبير من الديون، ودعم من المجتمع الدولي.
وفي حين تدخل الحرب الروسية في أوكرانيا عامها الثاني، تتجدد المخاوف حول مصير سلة الحبوب في منطقة البحر الأسود، التي أصبحت رهينة التجاذبات السياسية والأمنية. وفي الوقت ذاته، تساهم أحوال الطقس القاسية في الهند وباكستان والأرجنتين وشرق أفريقيا وأوروبا في تراجع الإمدادات الغذائية العالمية وزيادة الأسعار.
– الحرب تهدد أمن الغذاء العالمي
يُشير أحدث موجز لـ«البنك الدولي» عن الأمن الغذائي إلى حالة عدم اليقين التي تحيط بالأسواق الزراعية مع استمرار الحرب في أوكرانيا. ويؤكد التقرير، الذي صدر في منتصف آذار 2023، على استمرار التضخم في أسعار المواد الغذائية المحلية، حيث بلغت الزيادة في الأسعار أكثر من 5 في المائة خلال الفترة بين تشرين الثاني 2022 وشباط 2023 في مجمل الدول، لا سيما في أفريقيا وأميركا الشمالية واللاتينية وجنوب آسيا وأوروبا وآسيا الوسطى.
واستناداً إلى الموجز، تتصدر زيمبابوي مؤشر تضخم أسعار الغذاء خلال الفترة بين تشرين الأول 2022 وكانون الثاني 2023، بزيادة بلغت 264 في المئة، بينما جاء لبنان في المرتبة الثانية عالمياً، حيث بلغت زيادة أسعار الغذاء 139 في المئة. وتأتي الأرجنتين في المرتبة الثالثة (99 في المئة) ثم إيران (73 في المئة) فتركيا (67 في المئة). وفي حال استبعاد التضخم العام، تبقى الزيادة الحقيقية في أسعار الغذاء في زيمبابوي هي الأعلى عالمياً، وتليها زيادات الأسعار في رواندا ثم مصر، وتستمر إيران ولبنان وتركيا ضمن قائمة الدول العشر الأسوأ عالمياً من حيث زيادة أسعار الغذاء الحقيقية.
وكان شهر شباط الماضي شهد تراجعاً في أسعار الذرة بمقدار 10 في المئة، وفي أسعار القمح بمقدار 20 في المئة، بفضل صادرات القمح الروسي التي فاقت التوقعات، وكذلك بفضل اتفاق ممر تصدير الحبوب الذي سمح بنقل 3 ملايين طن من الحبوب شهرياً عبر موانئ أوكرانيا على البحر الأسود.
كما ساعد الحصاد الوفير في أستراليا وكندا على تعويض الانخفاض الحاد في شحنات القمح الأوكراني، وأدى الارتفاع الكبير في إنتاج الذرة في البرازيل إلى الحد من تأثير انخفاض الإمدادات الأوكرانية، وعزز حصاد الولايات المتحدة استقرار سوق الأعلاف، باعتبارها المصدر الأول عالمياً للحبوب العلفية، مثل الذرة والدخن والشعير والشوفان.
ونتيجة ذلك، انخفض مؤشر الأسعار العالمية لـ«منظمة الأغذية والزراعة» (فاو)، في شبا)، بنسبة 19 في المئة، بالمقارنة مع مستوى الأسعار القياسي الذي حققه المؤشر في آذار 2022، ولكن من المرجح أن تظل الأسعار متقلبة هذا العام، لا سيما خلال مراحل الزراعة ونمو المحاصيل الرئيسية، حيث تبقى مخزونات الحبوب العالمية أقل من المعتاد.
ويحذر «البنك الدولي» من أن أسعار الغذاء العالمية، رغم انخفاضها عن الأرقام القياسية التي وصلت إليها قبل عام، لا تزال مرتفعة، وأن قيود التصدير الجديدة قد تدفع الأسعار إلى الارتفاع مرة أخرى. وكانت 19 دولة فرضت حظراً على تصدير المواد الغذائية منذ كانون الأول 2022، كما وضعت 8 دول قيوداً على الصادرات.
وتفرض الحرب في أوكرانيا سطوتها على أكثر من ثلث تجارة القمح العالمية، و17 في المائة من تجارة الذرة العالمية، وما يقرب من 75 في المئة من تجارة عباد الشمس العالمية. ويمتد تأثيرها إلى مستلزمات الإنتاج الزراعي، حيث إن روسيا، إلى جانب بيلاروسيا، أحد أكبر مصادر الأسمدة المعدنية في العالم. ورغم وجود استثناءات محددة في نظام العقوبات تسمح للبلدين بمواصلة تصدير الأسمدة، فإن هذه الصادرات لا تزال تواجه تدابير أخرى تعرقل تدفقها.
ويصنف تقرير المخاطر العالمية لعام 2023، الصادر عن «المنتدى الاقتصادي العالمي»، أزمة الإمدادات الغذائية التي تلوح في الأفق واحدة بين أكبر 4 تهديدات تواجه العالم. ويتوقع التقرير أن تضر الآثار الآجلة لارتفاع أسعار الأسمدة بإنتاج الغذاء في هذه السنة، علماً بأن نصف سكان العالم يعتمدون على الغذاء المنتَج باستخدام الأسمدة المعدنية، وفقاً لتقديرات «منظمة الأغذية والزراعة» (فاو).
ويتفاقم نقص الأسمدة في السوق العالمية بسبب قيود التصدير التي تفرضها الصين، علماً بأنها توفر وحدها 30 في المئة من إمدادات الأسمدة الفوسفاتية العالمية، وتشير تقديرات «البنك الدولي» إلى انخفاض صادرات الصين من الأسمدة بنسبة 50 في المئة في عام 2022 نتيجة تدابير حماية السوق المحلية. وفي الوقت ذاته، أدى ارتفاع أسعار الطاقة نتيجة الحرب في أوكرانيا إلى انخفاض في إنتاج الأسمدة أوروبياً بنسبة 70 في المائة، مما عزز نقص الإمدادات العالمية.
– تراجع إمدادات الغذاء بسبب تغير المناخ
تلعب أحوال الطقس وآثارها الممتدة، لا سيما الفيضانات والجفاف، دوراً أساسياً في نقص الإمدادات الغذائية وزيادة الأسعار. ويتمثل الأثر الاقتصادي المباشر للجفاف في القطاع الزراعي في قلة المحاصيل وخسارة المراعي، ويتم غالباً نقل عبء الجفاف إلى المستهلكين من خلال زيادة الأسعار، ما لم يتم تعويض الخسائر عبر برامج المساعدة الحكومية في حالات الكوارث.
ويمكن أن تشمل الآثار غير المباشرة للجفاف في هذا القطاع انخفاض الإمدادات إلى الصناعات التحويلية، مثل الصناعات الغذائية، وانخفاض الطلب على المدخلات، بما فيها الأسمدة والعمالة الزراعية. وتتضمن الآثار غير السوقية للجفاف الضغوط النفسية على المزارعين التي قد تدفعهم لتغيير مصدر عيشهم.
وتُظهر بيانات وزارة الزراعة الأميركية أنه رغم المؤشرات الإيجابية لتحقيق البرازيل محصولاً كبيراً من الذرة هذه السنة يصل إلى 125 مليون طن، فإن إنتاج الأرجنتين (ثالث أكبر مصدر للذرة عالمياً) سينخفض إلى أدنى مستوى في 5 سنوات، بسبب أسوأ موجة جفاف تواجهها البلاد منذ 60 عاماً.
وكانت الهند حظرت، في أيلول 2022، صادرات الأرز المكسور، الذي يُستخدم بشكل أساسي علفاً للحيوانات، وفرضت رسوماً بنسبة 20 في المئة على صادرات أصناف أخرى من الأرز لدعم الإمدادات والأسعار المحلية، بعد تدني الهطول المطري في مناطق الإنتاج الرئيسية.
وتواجه الهند ودول جنوب آسيا زيادة في تواتر أحوال الطقس القاسية؛ من موجات حر متطرفة أو فيضانات عارمة. وتُعتبر المنطقة إحدى أكثر المناطق في العالم عرضة لتأثيرات تغير المناخ، وهي في الوقت ذاته إحدى أهم مصادر الأرز والقطن عالمياً. وكانت الفيضانات في الهند وباكستان، إلى جانب الجفاف في أوروبا، خفضت إنتاج البصل ورفعت أسعاره مؤخراً إلى أضعاف المستويات المعتادة.
وأمام قلة الإنتاج الزراعي بفعل الجفاف، حظرت دول أوروبية تصدير البصل والخضراوات والفواكه الأخرى، مثل الجزر والطماطم والبطاطس والتفاح. وانعكست هذه الإجراءات سلباً على المملكة المتحدة، التي واجهت نقصاً حاداً في الخضراوات، مما دفع الأسواق إلى تقنين بيع الطماطم والخيار ومكونات السلَطة الأخرى.
ويمكن تخفيف وطأة أزمة إمدادات الغذاء العالمية، من خلال عدة إجراءات، تشمل دعوة المصدّرين إلى الامتناع عن تخزين البضائع، وإلغاء سياسات حظر الصادرات، أو فرض الضرائب عليها، أو تقييدها بأي طريقة أخرى. ويجب على المستوردين خفض التعريفات الجمركية والضرائب الأخرى على الواردات أو إلغاؤها، لضمان توفير إمدادات كافية على نحو دائم. كما أنه من الضروري تعاون المنظمات الدولية بشكل أفضل لتقديم معلومات فورية عن تغيرات السياسة الخارجية وآثارها على الإنتاج والتجارة العالميين.
ويتطلب تعزيز أمن الغذاء في كل بلد القيام بمبادرات مؤثرة لدعم المزارعين وإنتاجهم. وتشمل الإجراءات المقترحة إزالة حواجز تجارة مدخلات الإنتاج الزراعي، كالبذار والأسمدة والمبيدات والأعلاف، وزيادة كفاءة استخدام الأسمدة، وإعادة صياغة السياسات، وحشد الموارد الحكومية لزيادة الإنتاج.
إن ضمان الأمن الغذائي يتطلب جعل النظم الغذائية الهشة أكثر مرونة في مواجهة المضاربات التجارية والصدمات الاقتصادية والاضطرابات الناشئة عن الصراعات وتغير المناخ والأمراض والآفات. ويستلزم ذلك تحقيق التوازن بين الاحتياجات قصيرة الأجل والاستثمارات طويلة الأجل، لضمان مستقبل غذائي آمن للجميع.