كتب منير الربيع في “المدن”:
بالعودة إلى معادلة السياسة فنّ الممكن، فإن خطوة الحكومة في التراجع عن مذكرة تأجيل اعتماد التوقيت الصيفي، هو تراجع عن أمرٍ بدا على الفور غير عملي واعتباطي ولا ينسجم مع المنطق. المذكرة المتسرعة كانت خطأ تراجعت عنه الحكومة من دون الاعتراف به. لكنه شكّل فرصة للخروج من تكريس المزيد من الانقسام ودوافع الدعوات إلى التقسيم والانفصال. عدا أنه لا توجد إجابة واضحة عن السبب الحقيقي الذي يقف وراء اتخاذ مثل هذا القرار، وتعمّد تسريب شريط الفيديو المصور. كما لا يمكن التبرير لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي هذه الاستجابة السريعة لما أملاه رئيس مجلس النواب نبيه برّي.
استفزاز المسيحيين!
قد تكون حسابات برّي كثيرة، ولو كان ذلك له معان شخصية أكثر منها عامة. خصوصاً أن رئيس المجلس الذي وجد نفسه مكبلاً في الفترة الأخيرة، بعدما عملت القوى المسيحية على إفشال جملة مبادرات أقدم عليها، أولها الدعوة إلى الحوار الوطني لانتخاب رئيس للجمهورية، ثانيها عقد جلسة تشريعية، ثالثها تعطيل جلسات اللجان النيابية المشتركة، رابعها عدم التجاوب مع ترشيحه لرئيس تيار المردة سليمان فرنجية، لا داخلياً ولا خارجياً، وبالتحديد مع المملكة العربية السعودية. ربما كل هذه الأسباب إلى جانب عدم توفر رغبة خارجية باستفزاز المسيحيين سياسياً وفي الاستحقاق الرئاسي تحديداً، دفعت برّي إلى الإقدام على هذه الخطوة كنوع من التصعيد الشخصي، والذي أراد من خلال إثبات القدرة على التأثير واتخاذ القرار، وأنه في حال تمت محاصرته في المجلس النيابي فإنه نافذ في مجلس الوزراء.
طعم الانتصار
بالانتقال إلى القوى التي اعترضت على هذه المذكرة، وهي محقة في ذلك، إلا أن الحملات التي اتخذت طابع الانقسام المذهبي والطائفي كانت مجانبة تماماً للصواب وبعيدة عن وجاهة الاعتراض. وما بين التصعيدين أو التوترين، فإن من دفع الثمن كان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، الذي انفجرت الأزمة في وجهه، سواء من قبل وزراء رفضوا الالتزام بما أقرته مذكرته، أو حتى بدفعه إلى التراجع فيما بعد. فكان تراجعه هو أقصى ما أمكن للإقدام عليه، فيما افتقد لفنّ تجنّب الوقوع في مثل هذا الخطأ، علماً أن الخطأ نتج عن رئيس مجلس النواب.
في هذه المعركة، وبكلام صريح وواضح، فإنها أكسبت المسيحيين نسبياً بعضاً من المعنويات والشعور بمقومات “انتصار” في كسر قرار الحكومة ورئيس مجلس النواب معاً، ودفعهما إلى التراجع. وهذه ستكون فرصة للقوى المسيحية للقول بضرورة وحاجة تكرار مثل هذا الانتصار في استحقاقات أخرى، أهمها استحقاق إنتخاب رئيس للجمهورية. وهذا ما قد تتجه نحوه القوى المسيحية في البحث عن قواسم مشتركة، لتكرار التجربة في كسر “قرار” الثنائي الشيعي بترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، وكسر قرار ميقاتي أيضاً الذي عبّر في أكثر من مناسبة بأنه يؤيد وصول فرنجية إلى رئاسة الجمهورية.
بالتأكيد، التمسك المسيحي باعتماد التوقيت الصيفي سيدفع الكتل المسيحية إلى التمسك برفض فرنجية، في محاولة منها لرفض ما يسعى الآخرون إلى فرضه عليهم.
ماكرون وبن سلمان
وعليه، فإن التراجع الذي حصل عن تأخير اعتماد التوقيت الصيفي، لا بد أن يقابله تراجع في السياسة أيضاً، انطلاقاً من قاعدة فنّ الممكن. فيما يبقى السؤال الأساسي عن الجهة التي ستتراجع. وهنا الحديث يتعلق بجهتين، خارجية وداخلية. في الداخل، المواقف على حالها. الكتل المسيحية ترفض فرنجية، والثنائي الشيعي يتمسك به. أما خارجياً، فالسعودية متمسكة بموقفها الرافض لمبدأ المقايضة، فيما كانت باريس متمسكة بأن المخرج الواقعي الوحيد هو تلك المقايضة، التي يختلف عليها أركان الإدارة الفرنسية، وفق المعلومات. في هذا السياق، جاء الإتصال الهاتفي بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والذي لا بد من تسجيل جملة نقاط أو استنتاجات منه.
أولاً، الرئيس الفرنسي هو الذي بادر إلى الاتصال بولي العهد السعودي. ثانياً، جاء الاتصال كنوع من الاستعاضة عن زيارة كان ينوي ماكرون القيام بها إلى السعودية خلال سفره إلى الصين الأسبوع المقبل، على أن يقوم بزيارة إلى الرياض في الأسابيع المقبلة، بدأ العمل على ترتيبها. ثالثاً، كان الاتصال متوقعاً. وقد ذكرت “المدن” الأسبوع الفائت بأن ماكرون سيحاول التواصل بشكل مباشر مع بن سلمان سعياً لإقناعه بالرؤية الفرنسية حول المقايضة، إلا أن الجواب السعودي كان ثابتاً في رفض ذلك. رابعاً، حصل الاتصال والذي أكد فيه الطرفان على ضرورة التعاون والمساعدة لإنقاذ لبنان من أزمته. وبالتالي، لو أن ماكرون نجح فيما أراد لكانت صيغة البيان قد اختلفت، وأشار في متنه إلى تقدم حققه. بينما ما يظهر هو العكس، من خلال إبقاء البيان في إطار العموميات. وهو ما تفسرّه مصادر متابعة بأنه اضطرار فرنسي للاقتراب أكثر من وجهة النظر السعودية. خصوصاً أن في الاتصال أيضاً قد تم البحث في مجموعة مشاريع واستثمارات تطمح فرنسا لتحقيقها مع السعودية، بمجالات الطاقة والدفاع. وهذا الموضوع الأساسي الذي يتم تحضير زيارة ماكرون إلى الرياض على أساسه.
هنا، تقول مصادر متابعة، إن فرنسا هي التي تظهر تغييراً في المواقف منذ الاجتماع الخماسي في باريس إلى ما بعده، بينما السعودية تبقى ثابتة على موقفها ولا تدخل بالتفاصيل، وتقول إن ليس لديها مصالح أو استثمارات في لبنان. وبالتالي، شروطها للحل وللمواصفات الموضوعة لم تتغير، ما يعني أن على باريس تغيير موقفها. هنا، لا بد من العودة إلى فنّ الممكن وفن اللاممكن.. وإذا ما كانت فرنسا ستتراجع فعلياً عن طرح المقايضة طالما أنها مرفوضة من جانب واسع في لبنان ومن الخارج أيضاً.
حركة السفيرين
داخلياً، شهدت الساحة اللبنانية تحركان. الأول، للسفيرة الفرنسية آن غريو، من خلال لقائها قبل أيام برئيس مجلس النواب نبيه برّي، وأمس الإثنين بلقائها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، مع التشديد على ضرورة الشروع في حوار للوصول إلى انتخاب رئيس للجمهورية، فيما تركز الاهتمام الفرنسي في الأيام الماضية حول ما جرى في ملف تلزيم المطار لبناء مبنى جديد للمسافرين، وسط امتعاض فرنسي مما حدث. وهنا، ثمة من يفسّر ذلك بأن باريس تريد كل الاستثمارات لشركاتها، كما حصل مع cma cgm، وصولاً إلى خلاف بين شركات فرنسية وألمانية حول الاستثمار في المرفأ، وفي مرافق أخرى.
أما التحرك الثاني، فكان للسفير السعودي وليد البخاري، الذي زار رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ورئيس حزب الكتائب اللبنانية سامي الجميل.
في نتائج جولة البخاري موقف واضح وهو إبلاغ الجميع بالتوجه السعودي نفسه حيال مقاربة حل الأزمة اللبنانية، والإشارة إلى أن السعودية لا تريد استفزاز أي طرف ولا الوصول إلى أي صيغة تسوية تشكل غلبة لطرف على حساب الآخر، مع إبلاغ القوى المسيحية بأن الرياض لا تريد استفزاز المسيحيين أو جعلهم في موقع المستثنى أو المستبعد عن اتخاذ اي قرار يتعلق بانتخاب رئيس الجمهورية.
..وحركة جنبلاط
أما في الخارج، فكان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، يلتقي في باريس برئيس المخابرات الخارجية الفرنسية برنار إيمييه، لتبادل وجهات النظر، لا سيما أن جنبلاط يعتبر أنه لا يمكن السير بفرنجية في ظل رفض القوى المسيحية له، ورفضه خارجياً أيضاً. كما أنه جدد شرحه لمقاربته أو مبادرته التي تقدّم بها. فيما سمع من إيمييه وجهة النظر الفرنسية، علماً أن المعطيات تفيد بأن إيمييه لا يوافق على مسألة المقايضة، والتي يؤيدها إيمانويل بون بقوة وهو الذي كان صاحب الدور الأساسي في ترشيح سعد الحريري لفرنجية في العام 2015. من هنا لا بد من انتظار الجهة التي ستعتمد فنّ الممكن، وتلجأ إلى التراجع.