كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
يراهن كثيرون على أنّ مسار الانفراج السعودي – الإيراني سيقود إلى تسوية في لبنان أيضاً. ولكن ما هو «الحدّ الأدنى» الذي تقبل السعودية بالحصول عليه في لبنان، وما هو «الحدّ الأقصى» الذي تقبل إيران بالتنازل عنه في المقابل؟
في 23 كانون الثاني 2022، وصل إلى بيروت وزير خارجية الكويت، أحمد ناصر المحمد الصباح، كاسراً جدار الأزمة الديبلوماسية الشاملة بين لبنان ودول الخليج، نتيجة تصريح «قديم» للوزير جورج قرداحي حول اليمن. وبَدا الضيف الكويتي حازماً في طرحه: جئتُ إليكم بورقة من 12 بنداً. هي ليست كويتية فحسب، بل «خليجية وعربية ودولية أيضاً. وهناك تنسيق تام في شأنها مع دول الخليج كافة».
الورقة حملت عنوان «إنقاذ لبنان وترتيب العلاقات الخليجية اللبنانية». وفي هذا العنوان كَمنت «كلمة السرّ» التي أراد الخليجيون إيصالها إلى السلطات اللبنانية: إذا أردتم منّا فعلاً أن نساهم في إنقاذكم، كما تطلبون، فعليكم أن تصحّحوا العلاقات التي تسَببتم أنتم في تخريبها.
الورقة فاجأت لبنان بصراحتها وقسوة بنودها، خصوصاً أنها جاءت من الكويت، الأكثر ليونة. فقد تضمّنت دعوة الحكومة اللبنانية إلى التزام الطائف وقرارات الشرعية الدولية والجامعة العربية، وتأكيد «مدنيّة» الدولة، وتطبيق سياسة النأي بالنفس «قولاً وفعلاً». كما طالبت بوضع إطار زمني لتنفيذ القرارين 1559 الخاص بنزع سلاح الميليشيات، و1701 الخاص بسلاح «حزب الله» وسيطرة الدولة على أرضها.
واشترطت الورقة وَقف تدخل «الحزب» في الشؤون الخليجية، والحصول على «تعهد من الحكومة بملاحقة أي طرف لبناني يشترك في أعمال عدائية ضد دول مجلس التعاون»، و»التدقيق في الصادرات اللبنانية إلى هذه الدول لضمان خلوّها من الممنوعات، لا سيما المخدرات». ولهذه الغاية، دعت إلى إنشاء «نظام لتبادل المعلومات الأمنية» بين لبنان ودول المجلس.
طبعاً، أدركت قوى السلطة منذ اللحظة الأولى استحالة الاستجابة لهذه الشروط. ولكن، لأنها تعاني جوعاً شرساً إلى المال، نتيجة الإفلاس، لم تستطع أن تعلن موقفها الرافض صراحةً، فعمدت إلى الأسلوب الذي تشتهر به: إطلاق الوعود الملتبسة والتمييع والمماطلة لكسب الوقت.
أعلن الرئيس ميشال عون مواقف صَعُبَ على الخبراء تفكيكها وفهمها. أما الرئيس نجيب ميقاتي فلم يجد أفضل من الإعلان مرّة أخرى أن لبنان يلتزم «النأي بالنفس». وانتهى الأمر عند هذا الحدّ. وبعد 6 أيام، أُرسِل الردّ اللبناني الرسمي إلى الوزير الكويتي الذي قال: «ستقوم الكويت ودول الخليج بدراسة هذا الردّ لمعرفة الخطوة القادمة مع لبنان».
انتهت المحاولة هنا: لا قوى السلطة في لبنان مستعدة لتلبية أي طلب خليجي لأن الأمر يتعلق بإنهاء نفوذ «حزب الله» داخل السلطة وعلى الأرض، ولا الخليجيون العرب مستعدون لتغيير النهج تجاه لبنان، لأنهم غير مستعجلين ولا شيء يُجبرهم على ذلك.
وعلى العكس، لبنان المنهار هو الذي يحتاج إلى الدعم الخليجي ليتمكن من النهوض. ويمكن القول إن الموقف السعودي من الرئيس سعد الحريري الخارج من الحياة السياسية هو «البارومتر» الذي يؤشّر بدقة إلى حقيقة المواقف التي يتجنّب الخليجيون إطلاقها علناً.
كل المحاولات التي أجراها أركان السلطة في لبنان، على مدى العام الفائت، لتصحيح الاهتزاز الذي أصاب العلاقات مع دول الخليج، والمملكة العربية السعودية تحديداً، لم تكن لها أي قيمة واقعياً.
فالعهد السعودي الحالي لم يعد مستعداً لخوض التجارب العبثية التي اختبرتها الرياض طويلاً مع قوى السلطة في لبنان. ولم تعد «الواسطة» التي يبرع فيها بعض اللبنانيين، وعمليات تبويس اللحى، كافية لإقناع الخليجيين بمدّ اليد إلى لبنان ودفع الدولارات. وتبين أن هذا الزمن انتهى إلى غير رجعة.
في العمق، ورقة 2022 تبقى هي الخلفية الحقيقية للحراك السعودي، والخليجي عموماً. فلا دعم للحكومة اللبنانية ولا مساعدات ما لم تلتزم البنود «القاسية» التي تعني عملياً نقل الحكومة اللبنانية من صف إيران و«حزب الله» إلى صفٍ متوازن ومحايد على الأقل. والتفاصيل واضحة في بنود الورقة.
والهدف السعودي لم يتبدّل على رغم التوصّل إلى اتفاق بين الرياض وطهران. وعلى العكس، يعتقد السعوديون أن التوافق مع إيران يجب أن يشكل الغطاء المناسب لضبط نفوذ «حزب الله» في لبنان والمنطقة العربية عموماً. وهذا ما يفسِّر تشدُّد السعودية في مواقفها تجاه طاقم السلطة في لبنان، وعدم ثقتها في الوعود التي يقطعها.
الإيرانيون من جهتهم لن يقبلوا خسارة مواقعهم الاستراتيجية في رأس «الهلال الشيعي»، ولن يتخلوا عن بوابة البحر الأبيض المتوسط والتماس مع إسرائيل، من دون مقابل. وبالتأكيد، هم سيدعمون «حزب الله» ليصمد في وجه الضغوط. ولكن، على الأرجح، وضمن الصفقة الشرق أوسطية الكبرى، قد يوافق الإيرانيون في لبنان على تسوية يمكن أن تُطَمْئن المملكة.
وسيكون عنوان الحراك المقبل، بين السعودية وإيران، هو إيجاد الصيغة السحرية التي تُرضي الرياض ولا تزعج طهران، من اليمن إلى لبنان. فهل ينجح الصينيون، البارعون بألعاب الخفّة، في تحقيق هذا الهدف؟