كتب منير الربيع في “المدن”:
ينهمك لبنان في مراقبة تداعيات التطورات الكبرى التي تمرّ فيها منطقة الشرق الأوسط والعالم. وقد كان سابقاً ساحة الانعكاس الأولى لقراءة التحولات والمتغيرات. هذا المجال الذي استقالت منه البلاد لساحات وميادين أخرى. أصبح ماكثاً في جزيرة تبدو معزولة عن كل ما له علاقة بالسياق العالمي، بخلاف ما كان عليه سابقاً، إثر الدور الذي صنع له. في الانعكاسات المباشرة للعزلة، تبرز عقوبات أميركية تباعاً، وفي الالتقاءات الإقليمية يُدرج في آخر سلّم الأولويات، كما هو الحال بالنسبة إلى الاتفاق السعودي الإيراني الذي تتركز أولوياته على الملف اليمني، يليه الملف السوري والعراقي، فيما يحلّ لبنان في الخاتمة.
الصورة والدور
كان لبنان يتمتع بمكانة ورمزية كبرى لكل العالم العربي، فشكل نموذجاً استباقياً لما يفترض أن يكون عليه العالم العربي، من الانفتاح إلى تطور التعليم، الاستقرار الإجتماعي اللائق، الصناعة الثقافية والصورة المرغوبة لما يمكن أن يكون عليه الاجتماع، القوة الناعمة وتأثيرها، نموذج دستوري متقدم، إمكانيات بشرية كبرى، بالإضافة إلى كونه مركز استقطاب مالي وسياحي، ما جعل له جاذبية في العالم العربي ومطمح لنفوذ أي دولة عربية تريد حجز مكانة لها في المنطقة، ويكون لها تأثير على مستوى السياسة. هذا ما جعل لبنان ذات أهمية كبيرة لدى السعودية وغيرها. وهو بالأساس ما كان دافعاً لشراسة النظام السوري للسيطرة والاستحواذ عليه على الدوام. وهو ما جعل إيران تطمع ببسط نفوذها فيه كطليعة ميادين المنافسة مع الدول الإقليمية الأخرى، بالإضافة إلى مجاورته لدولة احتلال عنصرية تتعارض كلياً مع مفهوم أي تقدم أو تنوع في المنطقة، بالإضافة إلى تحويله لجبهة مواجهة دائمة معها.
بدأ التأسيس لمثل هذه المزايا في القرن التاسع عشر، عندما كانت هناك مساع أوروبية حول العالم للحصول على حرية التجارة والهيمنة على طرقها وأسواقها العالمية، تحت شعار منع العوائق التجارية وفتح الأسواق. كانت الدولة العثمانية في لحظات ضعفها التاريخي وحاجة ماسة إلى أوروبا بدأت تتيح الدخول الأوروبي تجارياً واقتصادياً. نجحت أوروبا استغلال مسألتين أساسيتين، الإضطرابات في جبل لبنان، وتحديداً في العامين 1840 و1860، ما سنح أكثر بالتدخل السياسي وتكريس الحضور. ونجح الأوروبيون بناءً على الرغبة العثمانية بتطوير عدد من المرافئ بينها مرفأ بيروت. وكان لبنان قد بدأ باعتماد نمط زراعي صناعي متركزه الأساسي هو الحرير، فنشأت علاقات أساسية مع أوروبا وتحديداً مرسيليا وليون لتصدير شرانق الحرير إلى المصانع الأوروبية والفرنسية خصوصاً.
خسارة المزايا
كانت البرجوازية اللبنانية الناشئة بدأت تطمح أن تكون ممثلة لوكالات تجارية كبرى. وقد تطورت هذه العلاقات التي أصبحت بحاجة إلى حضور مباشر سياسي واقتصادي للأوروبيين على الساحل العثماني. وكانت بيروت مهيأة لمثل هذا الحضور وهذا الدور، الذي حولها إلى مقر لقناصل الدول الكبرى. في مسألة متشابهة مع اسطنبول والاسكندرية. وبدأ حضور القناصل بالتطور سياسياً واقتصادياً. بعد هزيمة نابوليون في مصر والهيمنة البريطانية على قناة السويس، بدأت باريس بالبحث عن منافذ أساسية إلى قلب الشرق ومن أبرزها وأهمها بيروت.
اليوم وقد خسر لبنان كل مزاياه، ولم يعد له أي أهمية أو ميزة تفاضلية. فهو سهل للبيع أو الشراء بأبخس الأثمان، ومادة للتنازلات السهلة، التي لن تكون مكلفة. غدا لبنان اليوم بلا أي حصانة.
في حال نجاته من انهياره، وتمكن من استعادة روحه، وعمل على تحرير دستوره وديمقراطيته، فبإمكانه إعادة صناعة الأمل في إعادة تشكيل مجتمعات ذات جذوة ربيعية في العالم العربي، بحثاً عن مصير مختلف عن الصراعات الطائفية أو الارتهان للاستبداد.
في حال استطاع لبنان التحرر من الشرور الكامنة فيه، يمكنه أن يعود بلداً نموذجاً وقاطرة لمعنى التقدم في هذه المنطقة. حينها فقط يمكن لهذا اللبنان أن يعود قيمة كبرى تستدعي تسابق الجميع نحوه.