كتب جوني منيّر في “الجمهورية”:
تشكّل فترة الاعياد وما يصاحبها من عطل رسمية مرحلة مؤاتية بالنسبة لعدد من القوى السياسية اللبنانية لتصفية الملفات العالقة، من خلال استغلال «فسحات» الاسترخاء لدى الناس الهاربين من الاحتقان السياسي والكوارث المعيشية والاقتصادية. وهكذا شكّل شهر نيسان فرصة ذهبية لإطلاق رصاصة الرحمة على الانتخابات البلدية، وايضاً لتوجيه الرسائل الاقليمية النارية من الجنوب واعادة ترتيب الحسابات السياسية انطلاقاً من الاستحقاق الرئاسي المعطّل، مع لجم مقصود ومُفتعل لسعر صرف العملة الوطنية. لكن نهاية فترة الاعياد تُنبئ بدينامية جديدة. ذلك انّ المبادرة الفرنسية، والتي تلقّت ضربة أميركية بسبب العقوبات التي فرضت على الاخوين رحمة، ستحلّ مكانها مبادرة قطرية مدروسة اكثر وتحظى بمظلة سعودية وأميركية.
فبعد الجولة الاولى للموفد القطري، والتي كانت استكشافية، من المنتظر ان تحصل جولة ثانية بعد انتهاء عيد الفطر، على ان تكون هذه المرة أكثر «دسامة». وما بين الزيارتين ثمة تطورات ومستجدات إقليمية من المفترض ان تشكّل عامل مساعدة للمبادرة القطرية.
بداية، هنالك استكمال تطبيق «اتفاق بكين» حول المصالحة السعودية ـ الايرانية والمقصود هنا إنهاء الحرب اليمنية والشروع في إعادة تَبادل البعثات الديبلوماسية بين البلدين، وهو ما سيسمح بإيلاء الساحتين السورية واللبنانية اهتماماً اكبر تزامناً مع انعقاد القمة العربية المنتظرة في السعودية، لكن هنالك ما هو أهم ويحصل في الكواليس الديبلوماسية، المقصود هنا الملف النووي الايراني. فالتصعيد الناري لكن المُنضبط بين واشنطن وطهران في شرق سوريا، يُوحي وكأنّ ما يحصل إنما يدخل في اطار التفاوض لا الانزلاق في المواجهة.
كذلك تعزيز القوة النارية للجيش الاميركي في الشرق الاوسط إنما يدخل في الاطار نفسه. كما انّ القرار بإرسال الغواصة فلوريدا، والتي تعمل بالطاقة النووية لتنضَم الى الاسطول الخامس العامل في الشرق الاوسط، هو بمثابة رسالة الى ايران. ويُحكى انّ ادارة بايدن لم تأخذ باقتراح عسكري مؤداه شَن موجة ثانية من الغارات العنيفة في شرق سوريا، وفضّلت رسائل الحشد العسكري، لأنّ هنالك خطوطاً تفاوضية مفتوحة وتعمل بزخم، وهو ما اختصره الرئيس الاميركي جو بايدن عندما قال: «لا تسيئوا الفهم فنحن لا نريد مواجهة ايران، بل ان نحمي وجودنا».
في الواقع فإنّ عمل الاسطول الخامس يشمل مضيق باب المندب قبالة اليمن والبحر الاحمر المُمتد حتى قناة السويس، كما تقوم سفن الاسطول بدوريات في مضيق هرمز والذي يمر عبره نحو 20 % من إجمالي شحنات النفط. وبالتالي، أرادت واشنطن ان تقول إنّ تركيزها على الصين وروسيا لا يعني ابداً انسحابها نهائياً من الشرق الاوسط، والذي يكاد أن يتحول احدى ساحات المنافسة مع الصين وروسيا، فالحرب مع ايران لا يريدها ايّ من الطرفين. ولكن أخيراً لفت خلال جلسة الاستماع في مجلس النواب الاميركي لرئيس هيئة الاركان المشتركة الجنرال مارك ميلي، حين قال أنّ بلاده ستمنع ايران من امتلاك سلاح نووي ميداني (field) وهذه الكلمة اثارت كثيراً من اللغط، فهل هذا يعني قبول أميركي بامتلاك طهران برنامجاً نووياً ولو غير ميداني؟
وتم ربط رفع مستوى الاستهداف العسكري الاسرائيلي لإيران في سوريا، بمعلومات حول مفاوضات سرية تدور مجدداً حول الملف النووي الايراني، على رغم من انّ الجنرال الاميركي عاد وصحّح عبارته خلال اجتماعه بلجنة القوات المسلحة في مجلس النواب. وتقول بعض الهمسات الديبلوماسية انّ واشنطن اعادت تواصلها مع طهران عبر وسطاء في الملف النووي، وانه تم طرح احتمالين: الاول يقضي بالسماح لإيران ببيع كميات اضافية من النفط مقابل اعادة تشغيل الكاميرات وتَبطيء مستوى تخصيب اليورانيوم. امّا الثاني فيقضي بإبقاء تخصيب اليورانيوم وفق المستوى الحالي في مقابل الابقاء على العقوبات الحالية ولكن مع عدم رفع مستواها او فرض عقوبات جديدة. وقد تكون واشنطن ترى انّ الظروف الحالية في الشرق الاوسط اصبحت اكثر ملاءمة إن لجهة المصالحة السعودية ـ الايرانية او لجهة الازمة الاسرائيلية الداخلية الحادة، وهو ما يجعل الدرب اكثر سهولة في اتجاه الاتفاق وهذا سيسمح بتهدئة أسعار النفط العالمية ما سيُساعد بايدن في حملة تجديد رئاسته. أضف الى ذلك انّ اعلان الفشل نهائياً حول الملف النووي لن يؤدي الى مواجهة اميركية ـ ايرانية مباشرة، بل الى حروب بالوكالة وعبر حلفاء ايران وفي عدد من الساحات ومنها الساحة اللبنانية، ما سيرفع من منسوب الفوضى والدمار. وهنا يمكن فهم إحدى جوانب رسالة «صواريخ» جنوب لبنان، حيث ذهب «حزب الله» واسرائيل الى حافة الهاوية وعادا منها.
وكذلك يُقال انّ ايران تريد ضمانات صلبة لاستدامة المعاهدة حتى لا يتمكن اي رئيس مستقبلي من الانسحاب منها كما فعل دونالد ترامب عام 2018، والاقتراح هنا بتخزين أجهزة الطرد على الاراضي الايرانية وتحت رقابة وكالة الطاقة الدولية لا في روسيا كما كان وارداً في السابق. أضِف الى ذلك انّ ايران تطالب باستثمارات بعشرات المليارات من الدولارات، وتلعب على وتر الاغراءات التي تقدمها الصين والتي تهدف لاستمالة الشعب الايراني الذي يميل تاريخياً وما يزال للثقافة الغربية والاميركية، فرفعت الصين من منحها الدراسية بمقدار كبير، وفتحت ابواب التوظيف بقوة من خلال الشركات الصينية العاملة في ايران. ومن هنا فإنّ الحركة الحاصلة في الكواليس تشير الى مستجدات ايجابية قد يشهدها الملف النووي، ما سيسمح بتسهيل التسويات إن في لبنان او في سوريا. في السابق كان التصوّر أن الانطلاق في التسوية من البوابة السورية سيجعل النتيجة تلقائياً محسومة في لبنان. لكن ثمة تبدّلاً بدأ يظهر وعلى اساس انّ إنجاز التسوية أولاً في لبنان سيسهّل الحلول في سوريا. ذلك انّ رفع العقوبات الاميركية عن سوريا يحتاج الى تهيئة ظروف اعادة النازحين الى ديارهم من دون الخوف من التجنيد او التحقيقات، وايضاً الاتفاق على دستور جديد للبلاد واعادة رسم الالوان الاقليمية بعناية على الساحة السورية، مع الاشارة هنا الى التباطؤ المصري المُستجد حيال التطبيع مع سوريا. امّا في لبنان فتبدو الامور اشد خطورة ومحكومة باستحقاقات زمنية داخلية داهمة، ولكنها في الوقت نفسه اصبحت اكثر نضجاً لتحقيقها، وهو ما سيسهّل لاحقاً الحلول في سوريا. لذلك سيعود الموفد القطري بعد عيد الفطر وهو يتّكئ على مناخ سعودي ـ ايراني مساعد واجواء اميركية ـ ايرانية واعدة.
فالمبادرة الفرنسية التي اصطدمت بالعقوبات الاميركية من جهة وبصواريخ الجنوب من جهة اخرى، أدّت مهمتها في ملء الوقت الضائع وتدوير بعض الزوايا. أضِف الى ذلك السقطات المتلاحقة التي يسجّلها الرئيس الفرنسي، إن داخلياً او على المستويين الاوروبي والدولي، وهو ما حصل معه إثر زيارته للصين والعاصفة التي أثارها. وبالتالي، فإنّ الموفد القطري، والذي سيعود في زيارته الثانية الى بيروت، سيحمل في يده ملفاً أكثر تفصيلاً هذه المرة وسط مناخ إقليمي أكثر ملاءمة.