كتبت جوزفين ديب في “أساس ميديا”:
يوم الثلثاء الماضي، حطّت طائرة “رئاسية” فرنسية في المملكة العربية السعودية. كان على متنها مبعوث الرئيس إيمانويل ماكرون، باتريك دوريل. وكانت “محمّلة” بـ”الضمانات”، التي سبق أن وعد ماكرون وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بأنّه “سيأخذها” من المرشّح لرئاسة الجمهورية سليمان فرنجية، وذلك خلال الاتصال بينهما في آذار الفائت.
حمل مسؤول الملفّ اللبناني في الإليزيه هذه “الضمانات”، وطار بها نحو نظيره، المستشار في الديوان الملكي نزار العلولا. ضمّ الاجتماع أيضاً السفير السعودي في لبنان وليد البخاري، الذي “يرمضن” في بلاده. وإلى هناك لحقت به أخبار لبنان والصخب الفرنسي الذي لا يتوقّف حول فرنجيّة.
تؤكّد المعلومات الأوّلية أنّ المبعوث الرئاسي الفرنسي عاد “خالي الوفاض”، لئلا نقول “خائباً”. الطلقة الأخيرة في مسدّس ماكرون اللبناني لم تُصِب الهدف. لم ينجح كبير المفاوضين الفرنسيين في تليين الموقف السعودي من فرنجية. وسمع الضيف الفرنسي أنّ الموقف الذي تبلّغه هو بتوجيه من وليّ العهد، وهو الموقف “المعمّم” من وزارة الخارجية السعودية في اتصالاتها مع الأفرقاء المعنيّين كلّهم.
الموقف هو التالي: فرنجية “غير مطابق لمواصفات” بيان نيويورك الثلاثي.
الجانب السعودي يتحضّر لجولة جديدة من “اللقاء الخماسي” الذي يضمّ إلى فرنسا والسعودية كلّاً من مصر وقطر والولايات المتحدة الأميركية. ربّما تعيد هذه الجولة الأمور إلى نصابها لجهة وقف حركة باريس المناقضة للتفاهمات المبرمة، من نيويورك إلى باريس. وهي حركة بدأت تأخذ منحى مؤذياً للبنان، نتيجة المماطلة والتمنّع عن دفع اللبنانيين إلى انتخاب رئيس “تصالحيّ” تنطبق عليه المواصفات المتّفق عليها.
حركة آن غريو الداخليّة
في هذا الوقت كانت باريس تقارب الملف الرئاسي باتجاهين، اتجاه خارجي عبر زيارة دوريل للسعودية، واتجاه داخلي عبر جولة قامت بها السفيرة الفرنسية آن غريو على القوى المسيحية المعارضة لفرنجية. حصلت بعض اللقاءات أمام كاميرات الإعلام، وحصل بعضها الآخر بعيداً عنها.
اتّبعت آن غريو خطاب “الترغيب” بمكاسب حكومية في حكومة العهد الأولى، كما فعلت في معراب مثلاً، على أن يوافق المسيحيون على رئاسة فرنجية.، لكنّها فشلت. ثمّ اتّبعت خطاباً دبلوماسياً يقول إنّ فرنسا لا تصرّ على رئاسة فرنجية، بل تؤيّد انتخاب رئيس بأسرع وقت ممكن والاتفاق على سلّة متكاملة لنهوض البلد. ثمّ لوّحت بعقوبات أوروبية على “معرقلي العملية الديمقراطية”.
فشلت كلّ المحاولات الفرنسية. فحطّت آن غريو في عين التينة في زيارة خاطفة، ناقشت خلالها مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي آخر معطيات الملفّ الرئاسي، وأبلغته بفشل المحاولات الفرنسية لمصلحة مرشّحه سليمان فرنجية.
فرنجيّة في دمشق
تزامناً مع كلّ هذا الحراك، كثر الحديث عن عودة “السين سين” والمصالحة بين السعودية وسوريا، وعن تداعياتها على لبنان لمصلحة محور الحزب وإيران.
لكن يبدو أنّ الاتّجاه العامّ ليس لمصلحة فرنجية وحلفائه. ففي معلومات “أساس” أنّ رئيس تيار المردة زار الأربعاء الماضي دمشق حيث عقد لقاء مع الرئيس السوري. وفي المعلومات التي تسرّبت أنّ دمشق لم تعطِ أيّ وعد لفرنجية بدعمه في مفاوضاته مع السعوديين.
كانت هذه خلاصة اللقاء الذي كان لقاء قصيراً جدّاً لأنّ من رصدوا موكب فرنجية علموا أنّه دخل سوريا لساعات قليلة جداً. وقد عاد بنتيجة واحدة، وهي أنّ لبنان، خصوصاً موضوع الانتخابات الرئاسية، ليس على طاولة الحوار السوري – السعودي. ويبدو أنّه لن يوضع على هذه الطاولة في المدى القريب، نظراً لتزاحم الملفّات العربية عموماً، والسوريّة بالأخصّ، التي تشكّل أولوية مطلقة للطرفين السوري والسعودي.
يقول مصدر دبلوماسي إنّ التوقيت ليس صدفة، متحدّثاً عن دخول أميركي على خطّ الرئاسة وانسحاب فرنسي لمصلحة تقدّم الدور القطري المنسّق مع السعودية بشكلٍ تامّ
تقدّم الدور القطري..
قرأ البعض في توقيت فرض العقوبات الأميركية على الأخوين رحمة دخولاً أميركياً على خطّ الرئاسة اللبنانية من بوّابة إحباط المبادرة الفرنسية.
ليست المرّة الأولى التي تقصف فيها أميركا مبادرة فرنسية تجاه لبنان. تتذكّر مصادر دبلوماسية زيارة ماكرون لبنان مرّتين متتاليتين بعد تفجير الرابع من آب عام 2020 ومبادرته إلى اقتراح تشكيل حكومة برئاسة سفير لبنان في ألمانيا مصطفى أديب. يومها أتت الرسالة الأميركية بتوقيتها مصوَّبة على الاندفاعة الفرنسية عبر عقوبات فرضت على الوزيرين السابقين يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل في شهر أيلول من عام 2020.
هل توقيت هذه العقوبات الجاهزة في أدراج الإدارة الأميركية يحمل رسائل سياسية؟
يقول مصدر دبلوماسي إنّ التوقيت ليس صدفة، متحدّثاً عن دخول أميركي على خطّ الرئاسة وانسحاب فرنسي لمصلحة تقدّم الدور القطري المنسّق مع السعودية بشكلٍ تامّ.
توحيد صفوف المعارضة
على المقلب المواجه للفريق الداعم لفرنجية، تنشط الاجتماعات واللقاءات التي تطرح أسماء يمكن الاتفاق عليها. من هذه الأسماء الجدّية الوزير السابق زياد بارود وصلاح حنين وقائد الجيش جوزف عون. وتتحدّث مصادر نيابية عن طروحاتٍ ستبدأ بالنضوج في الأيام المقبلة، وبحثٍ عن أسماء تتقاطع عليها القوى السياسية.
بعد شهر رمضان سينتهي الوقت الضائع الذي دام عدّة أشهر، على أن تعود الحركة إلى الملف الرئاسي من بوابة خلاصات اللجنة الخماسية بخصوص لبنان، ويبدأ البحث عن مرشّح ثالث بعد سقوط معادلة فرنجية – ميشال معوض.
حتى ذلك الحين سيكون لبنان قد أضاع أشهراً عديدة في محاولات باريس تسويق مقايضتها الشهيرة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، التي وصلت إلى حدّ محاولة فرضها على اللبنانيين. فقد مارست باريس سياسة العصا والجزرة مع القوى اللبنانية، تارة بالحديث عن مكتسبات حكومية للقوى المعارضة لفرنجية، وتارة بالكلام عن عقوبات أوروبية ستُفرض على معرقلي العملية الديمقراطية. وهي الآن تتحدّث بلجهة تهدوية لتقول إنّ فرنسا تؤيّد انتخاب رئيس للجمهورية مهما كان الثمن لأنّ لبنان لا يمكن أن يستمرّ على هذه الحال.
سواء كان فرنجية أو غيره، لا تريد فرنسا أن تخسر دورها بعدما انحسرت وظيفتها كـ”وسيط” بين إيران والمملكة العربية السعودية لصالح التقارب المباشر بين البلدين.
عاد دوريل أدراجه إلى الإليزيه خالي الوفاض… وها هو “الدور” ينحسر أكثر وأكثر.