كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
أيّاً كانت الظروف التي أدت الى عقد الجلسة التشريعية أمس، وبعدها جلسة مجلس الوزراء والنتائج التي أفضَت اليها، يمكن الحديث عن مواجهة «وهمية» و«ملغومة» بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. وقد تعدّدت المؤشرات التي عزّزت هذا الإتهام، وأخطرها تأمين النصاب لـ«جلسة تشريعية» في ظل خلوّ سدة الرئاسة. فسجّل ابطالها انقلابا دستوريا وقانونيا مدوياً على مواقفهم السابقة التي نَفت الصفة التشريعية عن المجلس كما الصفة التنفيذية عن حكومة تصريف الاعمال بحُكم العلاقة المتكاملة بين السلطتين. كيف ولماذا؟
ليس ثابتاً القول انّ ما شهده لبنان امس الأول كان يجسّد مواجهة قائمة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية لما تحتمله المعادلة من اشكال الاستخفاف والسخرية بعقول الناس في ظل النقاش الدائر منذ خلوّ سدة الرئاسة مطلع تشرين الثاني الماضي والحديث عن حكومة منقوصة الصلاحيات ومجلس نيابي افتقدَ حقّه في التشريع، قبل ان يقوم بواجبه بانتخاب رئيس الجمهورية قبل القيام بأي عمل آخر. وكل ذلك تحوّل امرا واقعا بمعزل عن الجدل الدستوري القائم بين هذه النظرية وتلك التي تدعم حقه في التشريع تأسيساً على شكل ومضمون دعوة رئيسه الى الجلسة مُحدداً سلفاً الهدف منها إن كانت لانتخاب الرئيس فيتحوّل المجلس هيئة ناخبة او جلسة تشريعية في حكم الضرورة فيلعب دوره التشريعي، وهو الانقسام نفسه الذي انسحب على جلسات مجلس الوزراء كَون الحكومة هي حكومة تصريف اعمال قبل خلو سدة الرئاسة، فكيف بالنسبة الى كونها ما زالت تمارس مهمات لم يعترف بها صاحب الثقة المطلوبة لتكتمل مواصفاتها الدستورية وهو المجلس النيابي الجديد الذي لم يتعرّف إليها ولم يمنحها اي ثقة منذ تلك اللحظة عينها.
وعليه، فإنّ ما جرى امس الاول في ساحة النجمة والسرايا الحكومية عكسَ سقوطاً مدوياً لأصحاب النظرية الأولى التي قال أصحابها بضرورة أن ينتخب المجلس رئيساً للجمهورية قبل «الانقلاب» الذي مورِس وتغيير رأيهم بتأمين نصاب الجلسة النيابية المطلوب للتمديد للمجالس البلدية والاختيارية، فردّوا هذا الى رئيس مجلس النواب وكل من خالفهم الرأي بثمنٍ بَخس لا يتجاوز موضوع التمديد للمجالس المستهدفة. وهم أنفسهم في الوقت عينه ما زالوا يرفضون إعطاء اي شرعية للحكومة ايضاً، ولا يعترفون بدستورية وشرعية قرارات حكومة لا تتمتّع بكل مواصفاتها الدستورية التي تتيح لها اتخاذ القرارات في ظل غياب رئيس الجمهورية. فكيف بالنسبة إلى النقاش الحامي المتوقّع أن يندلع بدءاً من اليوم او الغد حول مصير الجهة التي يمكنها ان تكمل مصير قانون التمديد وصولاً الى نشره في «الجريدة الرسمية» في غياب الرئيس، تزامناً مع إمكان انطلاق مسيرة الطعون المتوقعة أمام المجلس الدستوري لإبطال هذا القانون.
وفي موازاة النقاش القانوني والدستوري الذي فرز الخبراء الدستوريين والقانونيين والتشابك القائم بين داعم ورافض لِما تمّ إقراره في ساحة النجمة والسرايا التي تجاهلت أمس بند تمويل الانتخابات البلدية والاختيارية لتثبت انّ كل ما تحدثت عنه في الفترة الاخيرة عن خلافات بينهما كان مجرد مناورة «باهتة ومكشوفة» توحي للبُسطاء بوجود هذا الخلاف بينهما، فيما ظهر انّ مجلس الوزراء عاد واعترفَ بالتهمة التي وجّهت إليه من مؤيدي التمديد وخصوصاً بالتقصير الحاصل في التحضير للانتخابات قبل هذه المهلة الضاغطة. فأعاد بند التمويل الى وزير الداخلية للبحث في الكلفة المقدّرة لها واستشارة المحافظين والقائمقامين والهيئات القضائية والتعليمية والادارية والامنية المكلفة إدارة العملية الانتخابية من ألفها الى يائها.
وما يزيد من حجم الأزمات المتوقعة على طريق الانتخابات الموعودة ما يمكن ان يظهر من تعقيدات تتزامَن مع الآلية التي ستقود اليها الطعون النيابية التي سترفع في الفترة المقبلة وفق المهل القصيرة الفاصلة عن المواعيد المحددة لإجرائها، وفق الدعوة التي وجّهتها وزارة الداخلية وقد تم طَيّها في جلسة مجلس الوزراء الاخيرة وإعادة البحث مجدداً في برامج التمويل وتحديد المواعيد الجديدة. فقد قالت الداخلية إنّ المرحلة الأولى منها تبدأ في 7 أيار المقبل، وانّ المهلة الفاصلة عنها قد تمر قبل نشر القانون في «الجريدة الرسمية». وان احتسبت المهل الاخرى المعتمدة في المجلس الدستوري فسيكون من المستحيل أيّاً كان قراره بِرد القانون وإبطاله أو رد الطعون على قاعدة تتحدث عنها نظرية «المصلحة العامة» ومختصرها «Raison D›etat» وتكون البلاد قد تجاوزت كل المهل وجعلتها من غير قيمة دستورية او قانونية.
وعليه، وبحسب مصادر دستورية وقانونية، هل يمكن عندها تَوقّع ما قد ينشأ من نقاش دستوري وقانوني يُربك الساحة السياسية والحكومية ويدفع الى تشويه صورة المؤسسات التي ما زالت قائمة حتى اليوم على ندرتها، ويضع المجلس النيابي والحكومة في مأزق سيدلّ إليه قرار الدستوري ان أقرّ الطعن وابطل القانون الجديد لتجاوزه قراراً للمجلس صدر عام 1997 للأسباب عينها كما في حال العكس، والأهمّ حكومياً أنه جعلَ ما تعهّد به رئيس الحكومة في جلسة التمديد للقانون مجرد مناورات لا قيمة قانونية ولا دستورية لها. فهو تعهّد قبل نهاية الجلسة التشريعية أمام النواب الذين وجّهوا إليه اتهامات شتى، انّ في إمكانه – ومن باب إصراره على امرار الاستحقاق الانتخابي البلدي والاختياري – تحديد مواعيد جديدة له ابتداء من 21 ايار المقبل وحتى 28 منه، وهو كلام ثبت بطلانه شكلاً ومضموناً لمجرد أنه أرجَأ البحث في بند ملف التمويل، وكأنه لم يكن مُدرجاً في متن جدول اعمالها بعد ظهر اليوم عينه، الأمر الذي دفعَ المراقبين إلى البحث عن جديد قد حصل وما زال غامضاً في الساعات القليلة التي فصلت بين نهاية جلسة مجلس النواب قبل الظهر وموعد جلسة الحكومة بعده، خصوصاً انّ هذه الساعات شهدت لقاء ثنائياً بين رئيسي مجلس النواب والحكومة وقد دفعته نتائجه الى ما اتخذه من قرارات في الجلسة أبطلت تعهداته أمام المجلس النيابي.
عند هذه المعطيات والمؤشرات لا بد للمتابعين لمصير هذه الانتخابات ان يتوقّفوا أمام تداعيات ما قد يحصل من تردّدات مردّها الى حال التخبّط التي دخلتها المؤسسات الدستورية والتشريعية من تفسّخ عزّز الفشل في مقاربة الاستحقاق الرئاسي وغيره من الاستحقاقات التي كان يمكن مقاربتها في ظل الفشل في كثير من المجالات الحيوية الإجتماعية منها والمعيشية والمالية والخدماتية، إلى حدود فقدان الدولة أبسط خدماتها عَدا عن تنامي الأزمات المتناسلة وتلاشي مقومات الدولة ومؤسساتها.
وانطلاقاً مما تقدّم، يبدو واضحاً أنّ البلاد مقبلة على مزيد من المواجهات القاسية التي يختلط فيها الفشل في انتخاب رئيس الجمهورية مع العجز عن إجراء أي انتخابات أخرى. وهو واقِع «انقلابي» لا يبشّر بإمكان ان تقوم ايّ من المؤسسات الاخرى ما عدا العسكرية والامنية منها بأدوارها الى درجة تبدو فيها ألاعيب اهل السلطة ومكامنهم قد بدأت ترتدّ على أصحابها، إلى حَد يستدعي فيها المنطق رفع الصلاة لتجنيب البلاد أي انقلابات ومآس أخرى غير مقدّرة حتى اليوم، وقد تكون على الابواب.