كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
انتقلت المنطقة مع الاتفاق السعودي-الإيراني من مرحلة القطيعة بين القوتّين الإقليميتين إلى مرحلة تطبيع العلاقات وانطلاق ديناميكية التسويات التي ظاهرها متسارع ولكن محصلاتها النهائية بحاجة للوقت. فهل لبنان سيكون جزءاً منها؟
يجب التمييز بين المناخ الإقليمي العام الذي اتجّه نحو التهدئة والتبريد، وبين ساحات النزاع التي تتأثّر حكماً بهذا المناخ، ولكن التسويات داخلها تخضع لموازين القوى داخل هذه الساحات. إلّا انّه لا يفترض التقليل من انعكاسات الجو العام على مجمل الأوضاع في المنطقة من جهة، ولا التقليل من كون الصراع المركزي او بين المركزين لم يعد المحرِّك للأزمات من جهة أخرى
ولا بدّ من ان تصل مفاعيل هذا المناخ الجديد إلى لبنان عاجلاً أم آجلاً، وهذا ما يفسِّر الضغط الذي يمارسه محور الممانعة من الباب الفرنسي، في محاولة لتمرير او تهريب الانتخابات الرئاسية، استباقاً لوضع الملف اللبناني على طاولة المفاوضات بين الرياض وطهران، ولا مؤشرات إلى انّ هذا الملف أُخضع للنقاش من باب التفاصيل اللبنانية، وجلّ ما شمله الاتفاق لغاية اليوم، انّ «حزب الله» علّق تهجّماته على المملكة العربية السعودية.
ويبدو انّ «حزب الله» يخشى من ان يضطر إلى تسوية رئاسية عندما يبدأ النقاش بين الرياض وطهران حول لبنان من باب انتخاب رئيس جديد للجمهورية، والتسوية تعني انتخاب رئيس غير محسوب على فريق سياسي، فيما انتخاب مرشّح الحزب يشكّل أوضح صور الغالب والمغلوب، وإحياء المنطق الذي ساد إبان تسعينات القرن الماضي عندما تمّ الانقلاب على وثيقة الوفاق الوطني.
والزمن اليوم لا يشبه بشيء ذاك الزمن، فلا الجيش السوري في لبنان، ولا من تخلٍّ دولي وإقليمي عن لبنان، ولا ميزان القوى السياسي الداخلي يسمح باستفراد فريق او فئة، ولا الشعب اللبناني الذي انتفض مرتّين في 14 آذار و 17 تشرين في وارد القبول بالأمر الواقع، وبالتالي ما كان يصحّ ماضياً لم يعد يصحّ اليوم، خصوصاً انّ شريحة واسعة من القوى السياسية والناس وصلت إلى قناعة، انّ استجرار واستنساخ السياسات نفسها يُبقي البلد وسط الانهيار والفشل والعزلة.
والأكيد انّ لا قوة إقليمية ستفرض على اللبنانيين تسوية قاهرة وظالمة، ولكن يتوقّف عليهم بشكل أساسي إرساء التوازن الداخلي وتوفير الغطاء للسياسات التي تعزِّز مسار الدولة، وحصيلة السنوات الأخيرة كفيلة بتقديم صورة جلّية عن توازن لم تتمكّن قوى السلطة من كسره، واضطرت إلى التراجع في ملفات عدة مراراً وتكراراً، وما نجحت في تمريره مرّ بحلاوة الروح وشقّ النفس.
وما يجب تسجيله على هذا المستوى، انّ ما حققته قوى المعارضة من دون ان تكون موحّدة الصفوف، تحقّق قبل الاتفاق الإقليمي، ما يعني انّ وضعها بعد هذا الاتفاق أصبح أفضل، كون الفريق الآخر كان يستفيد من التدخُّل والدور والوهج الإيراني، والانكفاء الإقليمي الطوعي يساعد المعارضة في تعزيز أوضاعها، وورقة القوة التي تمتلكها ولا تُنزع سوى بإرادتها، تكمن في تنازلها من عدمه، فلا أحد باستطاعته ان يغصُب المعارضة على التنازل، والخطأ الذي وقعت فيه منذ العام 2005 كان نتيجة رغبتها في تسيير أمور الدولة وتجاوز قطوع الشلل الناتج من تخييرها بين القبول بتنازلات معينة او استمرار التعطيل.
وما يجدر ذكره أيضاً، انّ التوازن بين عامي 1990 و 2005 كان مفقوداً، ولكن بعد خروج الجيش السوري كان قائماً ولم يكن باستطاعة فريقي النزاع انتزاع اي شيء من دون موافقة الفريق الآخر، وكل المكاسب التي حصل عليها فريق «حزب الله» كانت بسبب التنازلات التي أقدم عليها خصومه بإرادتهم، انطلاقاً من اعتقادهم انّ التنازل يبقى أفضل من التعطيل ولو جاء على حسابهم.
وباستثناء اتفاق الدوحة الذي حصل نتيجة استخدام «حزب الله» لسلاحه وانتزع بموجبه الثلث المعطِّل، إلّا انّه سلّم برئيس للجمهورية وسطي، وما عدا هذه المحطة، نال معظم مطالبه الحكومية والوزارية والرئاسية والسياسية باستخدام سلاحه بالتعطيل. وقد بيّنت الأحداث انّ التنازل للخروج من التعطيل لم يخدم مسار الدولة ولم يوقف التردي والانهيار، ما يعني ان قوته ليست بسلاحه، إنما بتراجع أخصامه.
ولا شك انّ السلاح يمنع قيام الدولة، ولكنه لا يستطيع ان يُرغم القوى السياسية على خطوات لا تراها مفيدة للبلد، ومن هنا المبادرة بيد المعارضة، فإذا قررت القطع مع مسارها السابق، خصوصاً انّه لم يعد هناك ما يمكن تجّنبه، تضع الكرة في ملعب «حزب الله»، فإما يتراجع عن التعطيل سعياً لتسوية لا غالب ولا مغلوب فيها، وإما لا تسوية واستمراراً للتعطيل، وفي حال قرّرت استنساخ تجاربها السابقة، يعني انّ سلاح التعطيل ما زال يفعل فعله، وانّ التغيير المطلوب يستحيل التحقُّق، ولا بل الأوضاع ستتجّه من السيئ والأسوأ، والمعارضة ستفوِّت على نفسها فرصة ثمينة جداً.
ويمكن اختصار طبيعة المرحلة بكلمتي «سلاح التعطيل». وإذا كان التخلُّص من سلاح «حزب الله» غير ممكن الآن، فإنّ التخلُّص من سلاح التعطيل ممكن وسهل، وجلّ ما هو مطلوب من المعارضة عدم الرضوخ لمعادلة التعطيل، وعدم رضوخها يُلزم الحزب بالتراجع، خصوصاً في ظل المناخ الجديد في المنطقة، حيث ستكون إيران محرجة ومضطرة للتدخّل معه لدفعه إلى التراجع عن موقفه، وفي حال لم يتراجع بالتواطؤ مع طهران او لأي سبب آخر، فما على المعارضة سوى التمسُّك بموقفها الذي يشكّل وحده مفتاح التغيير الحقيقي.
فالتغيير يبدأ من اللحظة التي تُسقط فيها المعارضة سلاح التعطيل الذي يستخدمه «حزب الله» غير القادر ليس فقط على انتخاب رئيس للجمهورية، إنما غير قادر لا على تكليف رئيس حكومة ولا تأليف حكومة في حال أصرّت المعارضة على موقفها انطلاقاً من معايير دستورية وسيادية وإصلاحية ووطنية. وقد حان الوقت بعد ان وصل لبنان إلى ما وصل إليه، ان ترفض المعارضة اي تسوية بشروط الحزب. والمدخل لكل ذلك يبدأ من إسقاط مرشّحه الرئاسي. وعندما يلمس انّه أمام خصم لا يخضع لضغط الوقت والفراغ والابتزاز يضطر إلى التنازل.
ويجب ان يكون مجلس نواب 2022 هو الحدّ الفاصل بين مرحلتين: مرحلة التنازلات تجنباً لشغور وانهيار وفوضى وتغيير نظام، ومرحلة رفض التنازلات بمعزل عن الانعكاسات. والخطوة الأولى في مسار بناء الدولة تبدأ من الانتخابات الرئاسية ورفض مرشّح «حزب الله»، والمعادلة واضحة، التنازل سيقود إلى مزيد من التنازلات وإبقاء الدولة على حالتها المعروفة، ورفض التنازل الرئاسي يُطلق ديناميكية رفض التنازلات في الملفات كلها.
فالمعارضة أمام فرصة تاريخية لإسقاط «سلاح التعطيل»، فإذا نجحت سلك مسار الدولة مساراً مختلفاً، وإذا أخفقت بسبب تلكؤها وتراجعها يعني تفويتها فرصة قد لا تتكرّر بظروفها التي تبدأ بالانهيار ونقمة الناس ووجود ميزان قوى حقيقي، ولا تنتهي بالمناخ الجديد في المنطقة، وما عليها عندذاك سوى ان تلوم نفسها، لأنّ القيامة بعدها ستكون صعبة للغاية.
وأكثر ما يثير الضحك والغرابة، الترويج لفكرة انّ التسويات التي انطلقت في المنطقة ستشمل لبنان من خلال انتخاب مرشّح «حزب الله». وهذا الكلام مناقض لمفهوم التسوية التي قاعدتها الأساسية «لا غالب ولا مغلوب»، فيما انتخاب مرشّح الحزب يعني تكريس مفهوم «غالب ومغلوب». وبالتالي، إما تسوية على قواعد الدولة والدستور، وإما استمرار المواجهة. وما حصل في العام 1990 لا علاقة له بالتسوية بين اللبنانيين، إنما كان انقلاباً على التسوية التي أنهت الحرب اللبنانية بعد اتفاقهم على «وثيقة الوفاق الوطني» في مدينة الطائف. فهل المطلوب مواصلة الانقلاب أم بداية تصحيح المسار من خلال انتخاب مرشّح للدولة لا للدويلة؟ وهل تنجح المعارضة في إسقاط أبرز أوراق الحزب المتمثلة بسلاح التعطيل، والتي من دون إسقاطها لا أمل بإعادة تشغيل محركات قطار الدولة؟