كتب جوني منيّر في “الجمهورية”:
في 3 حزيران من العام 1982 تعرّض السفير الاسرائيلي في لندن شلومو ارغوف لمحاولة اغتيال من قبل ثلاثة أشخاص، تبيّن انهم ينتمون الى ابو نضال المنشَقّ عن منظمة التحرير الفلسطينية. رغم ذلك اتخذت اسرائيل من هذه الحادثة الذريعة لبدء اجتياحها العسكري للبنان. وكان معروفاً على نطاق واسع وقبل أشهر عدة، بأنّ اسرائيل تتحَيّن الفرصة وتنتظر اي ذريعة لبدء حربها في لبنان والسعي لِقلب المعادلة القائمة. وجاءت محاولة الاغتيال من قبل ابو نضال لِتَهب حكومة مناحيم بيغن الذريعة المطلوبة وعن سابق تصور وتصميم. أمّا لماذا أقدمَ ابو نضال على فِعلته التي أدّت الى اجتياح لبنان؟ فللمسألة تفسير أبعَد.
ففي تلك المرحلة كان صدام حسين يخوض حرباً قاسية مع ايران بدأها في العام 1980، والاختراقات التي كان قد حققها الجيش العراقي في البداية، كانت قد بدأت تسجّل صعوبات ميدانية بعد أن استوعبت إيران، الخارجة لِتوّها من ثورة داخلية، صدمة المفاجأة. والأهم انها كانت قد باشرت بالسعي لشراء الذخائر والاسلحة وقطع الغيار لسلاحها الاميركي الصنع من السوق السوداء، كَون العلاقات كانت قد قطعت بين طهران وواشنطن بسبب إمساك الثورة الاسلامية بمقاليد السلطة. وكانت اسرائيل تمسك بالسوق السوداء، وقادرة من خلال عملائها على بيع ما تشاء من الانتاج العسكري الاميركي. وكان لإسرائيل مصلحة في تحويل الاجتياح العسكري العراقي الى حرب استنزاف للعراق وايران على حد سواء، وذلك عبر اعادة تعديل موازين القوى في ساحات الحرب. وهذا بالضبط ما كان يخشاه صدام حسين. لذلك سعى لإشغال اسرائيل في المستنقع اللبناني عبر منحها الذريعة المطلوبة للدخول في الحرب وإبعادها قدر المستطاع عن مجريات الحرب الدائرة بين العراق وايران. لذلك طلبَ من أبو نضال القيام بعملية استهداف السفير الاسرائيلي في لندن.
وإذا صَدقت مقولة انّ التاريخ يكرر نفسه ولكن بأوجه مختلفة، فإنه لا بد للبنان من الحذر ازاء المخاطر الناتجة عن صراع الجبابرة في حرب اوكرانيا وتضارب المصالح الدولية. ومناسبة هذا الكلام الآن ما تهمس به بعض الكواليس الديبلوماسية حول الافكار المجنونة التي واكَبت تأليف الحكومة الأشد تطرّفاً في تاريخ اسرائيل. ذلك ان بنيامين نتنياهو ومعه الاحزاب المتطرفة بحثوا جدياً في استخدام القوة العسكرية والحربية في لبنان، وهم عرضوا هذه الافكار على الادارة الاميركية التي رفضت بشدة قيام اسرائيل بأيّ تحرك عسكري باتجاه لبنان وايضاً باتجاه ضرب المنشأت النووية في ايران. وأمام إصرار اسرائيل وتلميحها بأنها قادرة على تأمين ظروف مساعدة لمغامرتها العسكرية، رجّحت واشنطن ان يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي كان قد ساعَد نتنياهو على الفوز بانتخاباته، وراء تشجيع الحكومة الاسرائيلية على التورّط في حرب مباشرة جديدة في لبنان. وأن الهدف هو إشغال الولايات المتحدة الاميركية بالبركان الخطر الذي سينفجر في الشرق الاوسط، وبالتالي ابعادها عن تفاصيل الحرب الدائرة في اوكرانيا، ذلك انّ موسكو كانت وما تزال قلقة من التحضيرات الجارية والتي تتولاها واشنطن لترتيب الهجوم الاوكراني المعاكس، والذي كان قد حُدد موعده في نهاية فصل الربيع.
من جهتها تقول اوساط ديبلوماسية اوروبية مطلعة انّ الضغوط التي مارستها واشنطن اضافة الى عواصم اوروبية معطوفة على انفجار الشارع الاسرائيلي بوجه الحكومة، أدى الى وضع نتنياهو لمغامرته الحربية جانباً، كما انّ إرسال القيادة العسكرية الاميركية لقطع عسكرية متطورة إنما هَدف لوضع التحركات العسكرية الاسرائيلية تحت الرقابة اللصيقة لتجنّب اي مفاجأة قد تحصل. والكشف عن إرسال القنابل الخارقة للتحصينات والاعلان بأنها لردع ايران، انما يَهدف ضمناً لتهدئة الحكومة الاسرائيلية وقطع الطريق على المغامرات المجنونة. ذلك انّ الاهتمام الاميركي في الشرق الاوسط مُنصَب في هذه المرحلة على مهمة اعادة تشكيل المنطقة وترتيب خارطة سياسية جديدة لها، وهو ما يتطلّب التهدئة لا العكس. وثمّة تَوافق حيال هذه الصورة في الجانب الآخر، والمقصود هنا الظروف التي واكبت الزيارة الثانية لوزير الخارجية الايرانية الى لبنان في غضون ثلاثة اشهر فقط، وكان لافتاً انّ هذه الزيارة التي حملت رسائل متعددة لم تَحظ بالمتابعة والانتقاد والتركيز الغربي كما كان يجري سابقاً مع زيارات من هذا النوع الى لبنان. وهو ما يَشي بوجود شيء ما مطمئن في الكواليس الجانبية، وهذه الزيارة حصلت بعد اتفاق بكين بين السعودية وايران والذي يُرخي بآثاره على ساحات المنطقة ولا سيما لبنان. كذلك فهي تحصل بعد رسائل «الصواريخ» من جنوب لبنان، والتي تلت رفع مستوى الاستهداف الاسرائيلي لكبار الضباط الايرانيين في سوريا وحملت عنوان ترابط المسارات.
وتَقصّد عبد اللهيان تدشين وصوله الى بيروت بكلامه حول ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة، وبمعنى آخر استمرار النفوذ الايراني. وتوّج زيارته بالرسالة الأهم في مارون الراس حيث تعمّد التقاط الصور، والتي جاءت بمثابة الرد على حضور مُماثل لوزير الخارجية الاسرائيلي ايلي كوهين قبل أقل من اسبوعين عند الحدود التركمانستية – الايرانية.
وقد يكون قرأ البعض في رسالة عبد اللهيان انّ الترتيبات الجديدة الجارية في المنطقة لن تلغي الحضور الايراني عند الحدود اللبنانية – الاسرائيلية، ولو وفق ترتيب جديد أظهَره خلال برنامج زيارته في بيروت. فخلافاً للزيارات السابقة حرصَ المسؤول الايراني على توسيع دائرة المدعوين لتشمل جميع الكتل البرلمانية باستثناء القوات اللبنانية لأسباب معروفة، وهي خطوة تفسّر وجوب ان تشمل المعادلة السياسية اللبنانية مستقبلاً الجميع، وفي تصحيح للمعادلة السياسية التي كانت قائمة منذ العام 2016. وأظهَر عبد اللهيان هذه الرسائل بشكل أوضح بكلامه ولَو بصيغة ديبلوماسية ذكية وحاذقة، فحاذَر التورط في تفاصيل الملف الرئاسي ولم ينزلق في تسميه المرشح المدعوم من «حزب الله» سليمان فرنجية. لا بل فهو أطلق عبارته التي حضّر لها جيداً ومفادها: نرحّب بأي شخصية مرموقة وعندها الكفاءة تصل الى سدة الرئاسة بالتوافق بين اللبنانيين. واستخدام عبد اللهيان عبارة التوافق واضح ولا يحتمل الشرح، وكلام وزير الخارجية الايراني فهم بأنّه دعوة لفتح الباب امام التفاهم حول عناوين المرحلة المقبلة من خلال استحقاق رئاسة الجمهورية.
وجاء كلام النائب محمد رعد بعد مغادرة عبد اللهيان في السياق نفسه حين قال: لا سبيل لإنجاز الاستحقاق الرئاسي الّا بتفاهم الجميع، ونحن دعمنا مرشحاً للرئاسة لكننا لم نغلق الابواب. ودمشق التي انتقل اليها الوزير الايراني بعد بيروت تستعد لاستقبال الرئيس الايراني، وهي الزيارة الاولى من نوعها منذ اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، وبعد المصالحة الايرانية – السعودية في بكين وقبل موعد انعقاد القمة العربية في السعودية.
وخلال الاشهر الماضية حصلت تطورات اساسية في سوريا، إن لناحية الانفتاح العربي عليها او لناحية رفع مستوى الضغط العسكري الاسرائيلي على الحضور الايراني فيها. ووصل الامر الى حدود توجيه رسائل تهديد تَطال عمق النظام السوري. وفي المقابل باشَرت دمشق، والتي تعيش ازمة اقتصادية ومالية خانقة، بتطبيق خطة ضبط تهريب «الكبتاغون» الى السعودية. وفي الوقت نفسه تحدثت التقارير عن اعتماد سلوك اكثر تشدداً في حرية تنقّل المسؤولين الايرانيين في مناطق سيطرة الجيش السوري.
صحيح انه من المُبكر جداً الحديث عن إعادة ترتيب الساحة السورية وفق صيغة جديدة، لكن ثمة بوادر جديدة لا يمكن تجاهلها او القفز فوقها.
في المحصّلة فإنّ ورشة اعادة تشكيل المنطقة قد بدأت وانّ لبنان ليس بعيداً عنها، وانّ العناوين العريضة جرى التوافق عليها انسجاماً مع اتفاق بكين ووفق مبدأ التوافق لا الاستمرار في التصارع.
وهو ما يستوجِب انتظار الجولة القطرية الثانية، والتي ستحمل في طياتها الاشارات الحقيقية للسعودية.