كتب أحمد زين الدين في “اللواء”:
201 يوم على الشغور الرئاسي في لبنان، من دون أن تلوح في الأفق أي بوادر بإنجاز هذا الاستحقاق قريبا، وبعد 11 جلسة انتخابية لم تسفر عن أي نتيجة، تستمر الحكومة الميقاتية الثالثة التي تعتبر مستقيلة منذ بدء ولاية مجلس نواب في 22 أيار 2022 الفائت في مهام تصريف الأعمال، وفي وقت يواصل الدولار ألاعيبه وتحليقه، مترافقا مع ارتفاع جنوني في الأسعار وتدهور حياة الناس الاقتصادية والمعيشية والصحية والتربوية، وهو ما دعا «المرصد الأوروبي للنزاهة في لبنان» لأن يشير في بيان له «الى أن الانهيار الذي تشهده الليرة مقابل الدولار الأميركي في بيروت كبير جداً ويستدعي التوقّف عنده»، مشدّدا على أن «المسؤولية الكبرى تقع على الحكومة وعلى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الملاحق في العديد من دول العالم بتهم الاختلاس وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع والتزوير واستعمال المزوّر».
بشكل عام يتواصل الشغور الرئاسي ويستمر عداد فراغ الكرسي الأولى بالتصاعد، بانتظار إشارة مرور خارجية، عبر توافق دولي، وإقليمي وتحديدا عربي، كان يطلق عليه فيما مضى «الوحي» الذي يحوّله النواب في صندوقة الاقتراع باسم الرئيس العتيد، ولأن «كلمة السر» الحاسمة بشأن الانتخابات الرئاسية لم تصدر بعد، ليحوّلها نواب «الأمة» الى حقيقة في صندوقة الاقتراع الزجاجية، سيتواصل عداد أيام الشغور في الكرسي الأولى بالتصاعد «حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا» ويدخل اليوم الـ201 على شغور الكرسي الأولى، وتتعدد أشكال الأزمات التي ترمي ثقلها على الناس، وتطال كل نواحي حياتهم.
عرف لبنان 13 رئيسا استقلاليا منذ العام 1943، كان أولهم بشارة الخوري وآخرهم ميشال عون، وعرف خلالها ست حالات شغور رئاسية تراوحت بين 3 أيام في نهاية عهد الرئيس الخوري و3 أيام بعد اغتيال الرئيس رينيه معوض، و889 يوما بعد نهاية عهد الرئيس ميشال سليمان (2008-2014)، وفيما سجل 409 أيام من الشغور الرئاسي بعد نهاية عهد الرئيس أمين الجميل (1982-1988), سجل 181 يوما من الفراغ بعد نهاية عهد الرئيس العماد اميل لحود (1998-2004). وها هو الفراغ يحلّ في القصر الجمهوري بعد نهاية عهد الرئيس العماد ميشال عون، فيدخل عداده في اليوم الـ201.
بأي حال، فان عهد العهود الاستقلالية شهدت أحداثا كبرى ومشاكل وخلافات، وخصوصا في السنتين الأخيرتين من العهود التي شهدت اضطرابات وقلاقل، جراء جمود النظام والحياة السياسية وعدم تطوير آلياته الديموقراطية من جهة، وتأثير الخارج على الداخل من جهة ثانية، ونقل بندقية الولاء السياسي من كتف الى كتف من جهة ثالثة، وهنا يقدم الرئيس الاستقلال الثالث فؤاد شهاب وصفا دقيقا للسياسيين كما ينقل عنه غابي لحود في حديث (الى مجلة «الوسط» بتاريخ 16 آب 1998 – العدد 341) فيقول: الرئيس شهاب «لم يكن يحتقر السياسة، إنما كان يحتقر تجار الساسية وأكلة الجبنة الذين يعتبرون السياسة بازارات وصفقات، ويمارسون الكذب، وكان هذا أكثر ما يمقته، كان يشعر بالمرارة حين يرى كثيرين من السياسيين لا يقيمون وزناً لفكرة الدولة ويبحثون دائماً عن حصتهم، ويلجأون إلى إثارة الغرائز والنعرات للوصول إلى موقع، وكان فؤاد شهاب يتوقع من السياسي أن يتصف بالمسؤولية الوطنية وأن لا يتردد في اتخاذ المواقف الصائبة حتى وإن بدت غير شعبية، وكان الذين يتصفون بهذه الصفات يعدّون على الأصابع».
ويلاحظ انه نهاية معظم العهود الرئاسية كانت انتهت بأحداث كما حصل مع الولاية الثانية للرئيس بشارة الخوري، حيث تصاعدت الضغوطات الاستعمارية على المنطقة بما فيها لبنان، وفي 25 أيار 1950 صدر البيان الثلاثي الأميركي – البريطاني – الفرنسي يؤكد اتفاق الدول الثلاث على التدخل المشترك في الشرق الأوسط بحجة المحافظة على الأوضاع وتأمين الاستقرار، وتزويد الدول العربية بالسلاح، شرط عدم استعماله ضد بعضها البعض وبين هذه الدول بالطبع كانت إسرائيل.
وتبع هذا البيان ظهور (الدفاع المشترك) الذي كان المطلوب من الدول العربية الانضمام إليه. ورفض الشيخ بشارة الانضمام إلى هذا الحلف، الأمر الذي أدّى إلى خلافه مع السياسة البريطانية، إضافة الى نشاط العملاء البريطانيين في تأليب الرأي العام اللبناني عليه، وبالتالي التمهيد لإسقاط عهده.
لقد ظلّ الرئيس بشارة الخوري على الدوام يرفض ربط لبنان بأحلاف أجنبية لأنها تعارض روح الميثاق الوطني الذي كان أحد أهم أعمدة وفاق اللبنانيين ومع انتصار ثورة 22 يوليو الناصرية في مصر عام 1952 ازدادت الضغوط الاستعمارية على المنطقة من جهة وازداد صراع الدول الكبرى بين بعضها البعض من جهة أخرى، لفرض سيطرتها، خصوصاً الصراع الأميركي – البريطاني، حيث ان واشنطن صارت ترمي للحلول محل النفوذ البريطاني، فيما بريطانيا تسعى لسد المنافذ بشتى الوسائل والسبل أمام الرياح الأميركية العاصفة.
وهكذا فإن الضغوطات الخارجية وسلسلة من العوامل الداخلية المتناقضة والمتضادة تحالفت ضد الرئيس بشارة الخوري جعلته لا يكمل ولايته الثانية.. ويمكن اختصار هذه العوامل:
– التدخّل السافر للسفارة البريطانية التي «وجدت من الأفضل لمصالحها الاعتماد على المعارضة بدل الاعتماد على من هم في الحكم والسلطة، وهي استراتيجية مألوفة لدى دول أجنبية عديدة، قوامها تحالف مع المعارضة لإنهاك الحكم وإيصال المعارضة من ثم لتسلم قمّة السلطة».
– عرض وزارة الخارجية على شخصية من وزن شارل مالك، ذي العلاقات والروابط الحميمة جداً مع واشنطن لا مع لندن. وهذا ما جعل بريطانيا تسرع في العمل لإزاحة الرئيس بشارة الخوري بشتى الوسائل والسبل وقد كان الرئيس بشارة الخوري الذي احتفظ رغم هزيمته، بروح النكتة، يلمح إلى الانكليز ويقول: «الحق على الطليان» حتى انها صارت عنواناً لاحدى مسرحيات شوشو في نهاية ستينات القرن الماضي، وهكذا شاعت هذه العبارة وهي تردّد كثيراً عند توجيه نقد أو شكوى ضد إحدى الدول الأجنبية المتدخلة في الشؤون اللبنانية.
– تكتل قوى وشخصيات سياسية متناقضة الميول والمصالح، ولكل منها حساباتها ضد الرئيس بشارة الخوري.
بالطبع لا يعني ذلك، ان عهد الرئيس الاستقلالي الأول كان منزّها، لأن بطانة فاسدة أحاطت بالرئيس، ولم تكن هذه البطانة بعيدة عن الرئيس، بل كانت بمعظمها من لحمه ودمه.
ووجد السلطان سليم – شقيق الرئيس – في بعض الموظفين أدوات طيّعة يأمرها فتجيب عابثة بالأنظمة والقوانين ومبادئ الأخلاق، حتى ضجّت البلاد وارتفعت الشكوى وعمّ السخط على الدولة من الجميع.