كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
التنقيب عن الغاز في البلوك 9 يقفز من موعد إلى آخر، بل من وعدٍ إلى آخر. وآخر الوعود أنّ التنقيب سيبدأ بين آب وأيلول المقبلين. وقبل رأس السنة، يُفترض أن يكون لبنان قد تبلَّغ: هل هناك كميات من الغاز مناسبة للاستخراج تجارياً أم انّ أفراح الاحتفالات بترسيم الحدود مع إسرائيل، في تشرين الأول 2022، تبخّرت هي أيضاً مع الغاز؟
لم ينطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مبادرته لحل الملف الرئاسي في لبنان عبثياً. هو أراد إنتاج تسوية سياسية، تكون أفضل الممكن – في اعتقاده- لأن التعثّر يُبقي لبنان ضائعاً ويجعله ضحية المساومات، خصوصاً بين الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران. وفي أي حال، يعتبر الفرنسيون أن التسوية الرئاسية في لبنان لن تكون في النهاية أفضل من تلك التي يطرحونها اليوم. فلماذا إضاعة الوقت وإطالة الأزمة؟
ولكن، في الموازاة، ثمة مَن يعتقد أن ماكرون يستعجل التسوية في لبنان لضمان المصالح الفرنسية أيضاً. فإذا كان الأميركيون والإسرائيليون والإيرانيون يعتبرون لبنان موقعاً يتصارعون فيه لبسط النفوذ وتحقيق المكاسب، فالفرنسيون يعتقدون أنهم بالوفاق والاستقرار يضمنون مصالحهم. واليوم، استثمار الغاز هو المصلحة الفرنسية الأقوى.
فمن خلال شركة «توتال» التي تقود كونسورتيوم التنقيب والاستخراج، يُمسك الفرنسيون بملف الغاز. وإذ كانت الشركة قد أطلقت وعداً ببدء التنقيب بعد توقيع الاتفاق مع إسرائيل بوقت قصير، فإنّ التنفيذ يتأخَّر تحت عناوين تقنية مختلفة. لكن البعض لا يستبعد أن تكون للتأخير خلفيات سياسية.
فالشركة التي سبق لها أن أجرت عملية تنقيب في البلوك 4، قبالة الشاطئ الشمالي، أصدرت بياناً مقتضباً في العام 2020 شكّل صدمة للبنانيين، إذ أشارت إلى عدم وجود كميات من الغاز مناسبة تجارياً هناك. وهذا الإعلان قوبِل باستغراب العديد من أركان السلطة، بل بتشكيكهم.
عبَّر هؤلاء عن اعتقادهم بوجود خلفيات سياسية لبيان الشركة. وفي تعبير أكثر وضوحاً، رأى البعض أنّ الأمر ربما يترجم قراراً أميركياً بمنع الكشف عن وجود الغاز في لبنان، لأن ذلك سيمنح السلطة القائمة فيه قدرة على الاستمرار، فيما المطلوب إسقاطها تحت ضغط الأزمة والعقوبات.
وفي تقدير هؤلاء أن شركات النفط الغربية الكبرى كلها تتأثر بشكل مباشر بضغوط واشنطن وترضخ لخياراتها. ولذلك، هناك مخاوف من مماطلة متعمّدة في ملف التنقيب عن الغاز في البلوك 9، تجري تغطيتها بالتبريرات التقنية.
هذا يؤكد كلاماً متداولاً في أوساط ديبلوماسية مفاده أن الأميركيين لن يسهلوا حصول قوى السلطة على مليارات الدولارات، ولن يسمحوا لها بامتلاك ورقة قوية تُفاوض بها دول العالم، فيما هم يمارسون الضغوط عليها ويفرضون العقوبات على بعض أركانها ويرغبون في تغييرهم.
ولذلك، سيكون من الصعب جداً أن توافق الولايات المتحدة على تسهيل بدء استخراج لبنان للغاز، كما هي لا تسهّل مَدّه بالكهرباء الأردنية والغاز المصري. وقد تتأخر منصة الحفر في الوصول إلى حقل «قانا» إلى ما بعد آب أو أيلول، كما تأخرت مراراً حتى اليوم.
وإذا وصلت هذه المنصة وأعلنت وجود كميات من الغاز مناسبة تجارياً، فلا شيء يضمن أن تكون الفترة الواقعة بين التنقيب والاستخراج قصيرة. وللتذكير، إن هذه الفترة كانت 4 أعوام في حقل «تامار» الإسرائيلي، ونحو 9 أعوام في حقل «ليفياثان». فكيف ستكون الحال في لبنان؟
يعني ذلك أن لبنان سيحصل على الضوء الأخضر الأميركي لاستثمار موارده الغازية عندما تتم تسوية سياسية يرضى عنها الأميركيون. وهذه التسوية تبقى قيد الانتظار.
ولكن، في المقلب الآخر من المعادلة، ماذا عن إيران التي يُفترض أن تكون الأكثر استعجالاً لحصول حلفائها في السلطة على مليارات الدولارات التي تمنحهم القوة والقدرة على الاستمرار وتحقيق الانتصارات؟
ثمة مَن يعتقد أن حلفاء طهران لم يُبدوا حماسة للإسراع في حسم ملف الغاز، في اللحظات الأخيرة من العهد. وعلى الأرجح، هم يفضّلون تجيير هذه الثروة لمصلحة السلطة التي ستنشأ بنتيجة التسوية المقبلة، والتي يعتقدون أنها سيكونون فيها الأقوى بلا منازع.
وبذلك، تتقاطع طهران وواشنطن على تأخير استفادة لبنان من موارده الغازية والنفطية حتى إنتاج التسوية، وتعتبران أنّ إقرار التسوية السياسية وبناء تركيبة السلطة المقبلة هما الشرط الأساسي لتسهيل ملف الغاز وبدء استثماره، انطلاقاً من البلوك 9 (هذا في حال العثور على كميات مناسبة للاستثمار التجاري).
وهنا يكمن التحدي. فاتفاق السعوديين والإيرانيين قلّص العوائق من أمام التسوية في لبنان. ولكن، هل سيلاقيهم الأميركيون لإنجاحها أم سيتصدّون لها ويقومون بنسفها؟