كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
إن صدقت التسريبات بأنّ تفاهما سعوديا – ايرانيا تم التوصل إليه ويقضي بالنأي بالنفس عن الاستحقاق الرئاسي، فإنه سيكون من الواجب اعادة قراءة موازين القوى الداخلية بطريقة متأنية. فمثل هذه المعادلة سقطت في اكثر من مناسبة وهي تخضع للتشكيك. وإن كان الموقف الايراني يمكنه الركون الى «حزب الله» وقوته الداخلية فما هو المطلوب من الرياض لإثبات هذه المعادلة؟ وهل يمكن ان يؤدي ميزان القوى الداخلي الى إنتاج رئيس جديد للجمهورية؟
حتى الأمس القريب جالَ السفير السعودي وليد البخاري أكثر من مرة على القيادات الحكومية والنيابية والحزبية وجدّد التأكيد مرارا ان القرار في لبنان والطبخة الرئاسية هي على عاتق اللبنانيين بقرار إقليمي ودولي، وان على الكتل النيابية ان تتوجّه بمرشحين جديين الى ساحة النجمة لإجراء العملية الانتخابية وفق الاصول الدستورية والديموقراطية بغية انتخاب الرئيس أيّاً كان.
وبمعزل عن المواصفات التي يتحدثون عنها وتحتمل أكثر من تفسير لمصلحة هذا المرشح او ذاك، فإنّ مواقف البخاري تلاقَت في «نأيه بالنفس» عن التدخل بأسماء المرشحين ودعم ايّ منهم على حساب آخر، وهو توافق بشكل من الأشكال مع مواقف وزير الخارجية الايرانية حسين امير عبد اللهيان في زيارته الاخيرة الى بيروت والجنوب، عندما تجاهل الحديث عن الاستحقاق في مجموعة لقاءاته مركّزاً على لغة «المواجهة» المفتوحة مع «الكيان الاسرائيلي» والحديث القديم ـ الجديد عن استعدادات بلاده لتقديم الدعم والمساعدة للبنان لتجاوز أزماته، خصوصاً في قطاع الطاقة والإنتاج الكهربائي، على رغم من معرفته المسبقة بالعوائق التي تحول دون ذلك سواء بالنسبة الى عدم قدرة بلاده على تقديم ايّ «هبة غير مشروطة» ومعاناتها المستمرة من العقوبات الاميركية التي شلّت كل الاقتراحات الايرانية ووضعتها الى جانب المشاريع المجمّدة ومنها مشروع استجرار الغاز المصري والكهرباء الاردنية عبر الأراضي السورية بسبب العقوبات المشابهة المفروضة على دمشق.
ولم يتوقف المراقبون في قراءتهم للموقف السعودي عند هذه الحدود، بل زادوا واعتبروا انه جاء متناسقا ايضا مع مواقف الدول الاربع الاخرى من أطراف «لقاء باريس من أجل لبنان». فالخارجية الفرنسية التي استضافت هذا اللقاء في 6 شباط الماضي اضطرت امام مسلسل الضغوط التي تعرضت لها، ونتيجة الرفض العارم للقيادات الحزبية المسيحية وقوى المعارضة لمبادرتها الرئاسية المزدوجة التي جمعت رئاسة الجمهورية مع رئاسة الحكومة معاً، الى الاعلان في 20 نيسان الماضي ردا على ما سمّته «وسائل إعلام لبنانية عن دعم فرنسي مُحتمل للوزير السابق سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية»، ان «ليس لباريس أيّ مرشّح في لبنان». وقالت المتحدثة باسم الوزارة آن-كلير لوجاندر يومها في مؤتمر صحافي انّ «على اللبنانيين اختيار قادتهم».
والى المواقف الفرنسية والايرانية كما السعودية، لا يمكن تجاوز مسلسل المواقف الاميركية التي عبّر عنها الناطق باسم وزارة الخارجية الاميركية اكثر من مرة ورَددته سفيرة بلاده في بيروت دوروتي شيا، بأنها لم ولن تتدخل في اسماء المرشحين لأن ليس لديها اي مرشح يستظِلّ دعمها في لبنان. وهو أمر استنسخته مواقف مصرية وقطرية ليكتمل عقد مواقف الدول الخمس. وإن كانت الاجواء تتحدث عن دعم قطري لقائد الجيش العماد جوزف عون، فإنّ مثل هذا الموقف لم يصدر عن القطريين لا بطريقة مباشرة ورسمية ولا مواربة حتى اليوم. ولذلك بقي نتاج تسريبات اعلامية وديبلوماسية لم تحظ لا بتأكيد قطر ولا بنفيها على رغم من جولة موفدها الى بيروت وزير الدولة للشؤون الخارجية محمد عبد العزيز الخليفي الذي قد يستأنف مهمته في الساعات المقبلة، وحراك سفيره في بيروت إبراهيم بن عبد العزيز السهلاوي وفريق ديبلوماسي وأمني زار بعض القيادات السياسية والحزبية في لبنان.
وبناء ما تقدّم من هذه المؤشرات التي ما زالت تخضع للتدقيق للكشف عمّا يمكن ان تؤدي اليه، إعترفت مراجع سياسية وحزبية في لبنان بوجود صعوبات في إثبات حجم النأي بالنفس الذي يوحّد مواقف الأطراف كافة. واضافت: ليس علينا ان نصدّق كل ما نسمعه فهؤلاء الاطراف يدركون اكثر من اي مسؤول لبناني حجم العقبات التي تحول دون إنتاج الحل في لبنان وانتخاب الرئيس العتيد بتوافق داخلي باتَ الحديث عنه يُشبه المعجزة الحقيقية على ندرتها في مثل الظروف التي تعيشها البلاد.
وان توغّل المراقبون في قراءة المعوقات يتوقفون بداية امام التصلّب الذي عبر عنه «الثنائي الشيعي» تجاه مرشحه للرئاسة، متسلّحاً بالدعم الإيراني المطلق الذي يسمح للجانب الإيراني باستباق الجميع بالنأي بنفسه عن الإستحقاق الرئاسي في ظل استناده الى الحضور الاستثنائي لـ»حزب الله» من ضمن «الثنائي الشيعي»، فكيف ان بقيت باريس على موقفها من تسويق مرشحها رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية في التوجّه عينه. وهو امر لا يعوق مشروع «حزب الله» لإيصال فرنجية الى قصر بعبدا فحسب بل انه يضع الموقف السعودي في مواجهة مربكة. فهو والى جانب تعهّده بعدم التدخل وسحب كل أشكال «الفيتو» عن اي مرشح بمن فيهم فرنجية نفسه، فإنه غير مستعد حتى هذه اللحظة لبذل اي جهد لتغيير موازين القوى في الداخل ودعوة حلفائه – إن وجدوا بالطريقة التي تشبه وجود حلفاء إيران ودورهم في لبنان ـ لتغيير موقفهم من المعادلة الرئاسية القائمة بتوازناتها السلبية في غياب اي مشروع او فكرة لتعديلها في اي اتجاه حاسم.
على هذه الاسس، تتطلع المراجع الديبلوماسية بقَلق، عند قراءتها لحجم «النأي بالنفس» الذي يمكن ان يتحكّم بموقف كل من السعودية وإيران وحيادها تجاه الاستحقاق الرئاسي. ذلك انه ليس من السهل ان تؤدي هذه السياسة الى اي انجاز ايجابي يُنهي الفراغ الرئاسي الذي اقترب من شهره السابع. وهو امر يؤدي الى إبقاء اللبنانيين جميعاً في عمق المأزق الذي وصلوا اليه كلّ على مستوى طموحاته.
وعليه، يمكن للمراجع السياسية والديبلوماسية ان تستنتج أنه وبالاضافة الى المأزق الذي بلغته المعارضة في عجزها عن اختيار البديل للمرشح النائب ميشال معوض ولو نال صوتا واحدا اضافيا عنه، فـ»الثنائي الشيعي» ايضا باتَ «أسير شَرنقة» نتيجة موقفه المتشدد من إصراره على عدم وجود اي بديل من مرشحه، ولم ينجح بعد بِفَك الطوق المضروب عليه من أكثر من جهة ولا سيما المسيحية منها.
وفي ظل عدم قدرة ايّ من هذين الطرفين على الخروج من مأزقه، ما زال رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل يغرّد خارج الملعبَين طالما انه قادر على اللعب على حبلَي المعارضة والثنائي معاً الى مرحلة قد تطول او تقصر. ذلك انّ الاخطر من القدرة على تقدير المسافة الفاصلة عن الحل هو وجود ما يؤدي الى دخول البلاد مرحلة من الخطر لقربها من استحقاقات مصرفية ومالية ونقدية خطيرة قد تشكّل دافعاً الى الارتطام الكبير الذي طال الحديث عنه ولم يقع بعد. وهو أمر بات مرئيّاً بالعين المجردة إن لم يكن هناك قرار اقليمي ودولي للقيام بدور كبير وحاسم يتجاوز الرهان على ما هو غير كاف إن ثبت وجود الحياد الإيراني ـ السعودي.