كتبت نوال نصر في نداء الوطن:
نعرف أن لا أحد يبالي، لكن، الناس يصرخون، ويستحقون أن يسمع- من لا يزال يبالي- صراخهم حتى ولو كانت الدولة صماء لا ترى ولا حتى تشم. الصيف آتٍ. وبلدات، كما حبات المسبحة، تترامى على نهر كان يُسمى “«المسيل”»- مجرى السيل- باتت تخاف من الصيف ومن شمس الصيف ومن المجارير والمياه المبتذلة التي تصبّ في “«المسيل”» فتبدل طبيعة البقاع وتجعل النهر مجروراً مفتوحاً على أراضٍ وبيوت ومدرسة وناس وزراعات نعود ونتناولها فتترك فينا رواسب لا تنتهي. فإلى دير الأحمر سرّ.
تبدأ المشكلة من إيعات ولا تنتهي عند حدود دير الأحمر. وإيعات، لمن لا يعرف، بلدة لبنانية واقعة في قضاء بعلبك في محافظة بعلبك الهرمل، كانت تشتهر بعمودها الأثري الذي يصل إرتفاعه الى 18 متراً، فباتت، منذ عقدين، مشهورة بمحطة التكرير المعطلة فيها التي تلوث المنطقة. من هنا بدأت المشكلة. أنشئت المحطة في العام 2008 بتمويل دولي لتعالج مياه الصرف الصحي الآسنة لمدينة بعلبك والقرى المجاورة. زلغطت النسوة فرحاً. وألقى الرجال وقتها الشعر والنثر ترحيباً. ظنوا أن حلًا أتاهم لكن، كما دائما في لبنان، باتت المحطة معطلة والرواسب اصبحت همّاً بقاعياً. كل الفضلات من مسالخ ومؤسسات طبية ومصانع ومجارير المخيمات السورية أصبحت ترمى فيها، في المسيل، حتى فاض بها على جانبيه حيث تقع بلدات شليفا وبتدعي ودير الأحمر . وهناك مدرسة، مدرسة الراهبات، على جانبه أيضاً. فهل تتخيلون 500 طالب وطالبة ينالون العلم مثقلاً برواسب ومجارير تفوح ويضطرون الى الغطس بها ليعبروا الى معلَم تربوي؟
كارثة وأكثر
يقال إن البعيد عن النظر بعيد عن الفهم. ولن يفهم معاناة هؤلاء إلا من زاروا المكان ورأوا بالعين المجردة الكارثة البيئية الإجتماعية والصحية. لكن، ما همّ الدولة بحالهم؟. فلنتوجه الى دير الأحمر التي تعاني الأمرّين منذ زمن والمشكلة الى استفحال عملاً بمقولة «أهل مكة أدرى بشعابها». رئيس بلدية دير الأحمر لطيف واسمه لطيف القزح. لكننا في زمن اللطف فيه يذوب أمام البطش. نسأل رئيس البلدية عن حال بلدته فيجيب: «نحن حكينا الكثير. قلنا ما لم يقله مالك في الخمرة. لم نترك مسؤولا ولم نزره والمشكلة الى تأزم».
المشكلة ليست بين إيعات الشيعية ودير الأحمر المارونية لكنها بين الناس والدولة التي ترمي هموم الناس عليهم وحين ينتفضون تستغرب. هي رمت عليهم كل فسادها في كل لبنان وبلدات بقاعية تدفع الثمن كبيراً. فما رأي رئيس بلدية دير الأحمر بما يعانيه أهل بلدته؟ يجيب «أنشئت محطة التكرير من أجل 200 بيت فأصبحت مضطرة لمعالجة بيوت مدينة بعلبك والضواحي. والاسوأ أنها لا تعمل بشكل منتظم، هي تدير آلاتها يوماً أو يومين في الشهر، عند زيارة مسؤول، وتطفئها بعدها. سعة المحطة أقل بكثير، هذا إذا عملت، من كميات المياه المبتذلة التي تصل إليها.
تتبع المحطة – أو يفترض أن تتبع – لوزارة الطاقة والمياه. وأنتم أدرى بما فعلته الوزارة من موبقات على أنواعها. فلا كهرباء في «الطاقة» ولا عناية واهتمام. وموظفو المحطة يتقاضون خوّة. أكثر من تسعين واحداً من المحظوظين يتقاضون رواتب ولا يعملون. فهل من يرفع عن الأهالي الذين يتشبثون في البقاء الضرر؟
لجنة الأهالي في المدرسة المنكوبة، مدرسة سيدة البرج لراهبات العائلة المقدسة، صرخت على مدى عقدين كثيراً. بطرس القزح أحد الأعضاء. هو ابن دير الأحمر وعائلته تتجذر في الأرض وأطفاله الأربعة درسوا- ويدرسون- هناك. ولديه الكثير ليقوله من قلب القلب: «يوم قرروا إنشاء المحطة وقع وأيد المشروع رئيس بلدية شليفا، على اساس هو مشروع صرف صحي، والسكان سيستفيدون منه في الريّ بعد الفلترة. أنجز المشروع مجلس الإنماء والإعمار. وبدأت المشكلة فور انتهاء المشروع. قمة الفساد حدثت هناك. وبدأت الفضلات الآسنة ترمى في مجرى مياه الأمطار وصولاً الى نهر اليمونة، مروراً بشليفا وبتدعي ودير الأحمر والكنيسة مثقلة بمياه المجاري. أصبحت مياه المجارير شلالاً. كل قرى غرب بعلبك والضواحي وعددها 34 بلدة وقرية مشروكة بهذا المشروع. المحطة أنشئت لتستوعب 9000 متر مكعب يومياً فباتت تستقبل يوميا أكثر من 22 ألف متر مكعب. ولكم أن تتصوروا النتيجة. المحطة باختصار غير مطابقة للمواصفات، علما أن لها موازنة سنوية. والأنكى أن الأمم المتحدة تلزم تكرير مياه الصرف في المخيمات السورية فيأتي الملتزمون ويرمون المخلّفات في مجرى السيل الذي لو أتيح له الصراخ بدوره لقال: كفى.
وعود
وزير الأشغال علي حميه وعد أن يعاين المكان. سجيع عطيه، رئيس لجنة الأشغال العامة والنقل والطاقة والمياه، وعد ان يعاين المكان ايضاً. لم يفعلا. خافا على الأرجح من تلوث أنفيهما بالمشكلة المترامية؟ سألنا النائب سجيع عطيه فأجاب: «إلتقيتُ مع النائب أنطوان حبشي. وتكلمت مع وزير الداخلية الذي طلب كشفاً من المحافظ. كما وعدتنا وزارة الطاقة بزيادة معدل ساعات الكهرباء كي تتمكن المحطة من العمل. كما أن وزارة الداخلية وعدت بفتح الساقية كي لا تدخل المياه الى البيوت ومدرسة الراهبات. أضاف: في الحقيقة، نقلنا الرسالة كاملة الى وزارة الداخلية وهي المسؤولة المباشرة عن الموضوع. كما تكلمنا مع وزير الطاقة ووعدنا خيراً (يكرر ذلك)، وإذا كان مطلوباً مني أي شيء آخر فأنا مستعد».
سجيع عطيه أنجز ما عليه. هذا ما قاله. غيره يقولون ذلك أيضاً. والناس، الأهالي، يعيشون رعباً حقيقياً على أولادهم وحياتهم. وهم، بلسان واحد، يجيبون النائب: لأ مش ماشي الحال!
محافظ بعلبك – الهرمل بشير خضر حاول أن يجد حلاً فقرر أن يبني قناة مسقوفة الى جوار مدرسة الراهبات في دير الأحمر، فلا تعود المياه المبتذلة منظورة، وذلك على مسافة 1500 متر- كساقية مسقوفة – وزار المدرسة وشاهد عن قرب عمق المشكلة، لكن طول المجرى 12 كيلومتراً، بعرض يبدأ من أربعة أمتار في مطارح ويصل الى 12 متراً في مطارح أخرى، يعني بعرض يتجاوز ست مرات عرض الطريق، فأي «تونال» يصلح لذلك؟ يخبر بطرس القزح ذلك بنبض مواطن يتشبث بالأرض والبقاء. والأسوأ لم يأت بعد، وهو أننا نأكل من خيرات البقاع الكثير. نعم، نحن نتناول من خيرات بلدة الكنيسة من البطاطا المروية بمجارير ومياه آسنة. ما معناه أن صحتنا جميعاً ليست بخير. لكن، هل من يهتم؟ القمح والشعير يروى أيضا من تلك المجارير. وهناك أراض مملوكة من الناس باتت مغطاة بالكامل بالمجارير.
اللهمّ أشهد أني بلغت. المواطنون بلّغوا الدولة. لكن هل هذا يكفي لتنتهي مشكلتهم؟ يجيب لطيف القزح: «إذا ما بيردّوا شو منعمل؟ يحتاج الحلّ الى عشرين مليون دولار- لا مليون ليرة – والدولة تشحذ. والجهات المانحة لا تهتم – بيناتنا – إلا لشؤون النازحين السوريين. وقيمة المشاريع التي ينفذونها في المنطقة بآلاف الدولارات لا بالملايين. ودير الأحمر، لمعلوماتكم، مدينة تضم صيفاً ما لا يقل عن 15 ألف نسمة. هؤلاء يستعدون اليوم ليتنشقوا مع الهواء العليل مجارير كل المناطق المجاورة.
من يسمع؟
ما نلاحظه أن دير الأحمر تصرخ كثيراً أما إيعات والكنيسة اللتان تعانيان أيضا فأصوات من فيهما أكثر خفوتاً. فلماذا؟ يجيب رئيس بلدية دير الأحمر: «لا بلدية في الكنيسة أما رئيس بلدية إيعات فيصرخ أيضا لأن لديه مشروعاً سياحياً كلفه ملايين الدولارات. فمن سيسوح بين المجارير؟ ناهيكم عن أن الأهالي بدأوا يشعرون بتدخلات سياسية من أجل غض النظر حالياً عن المشكلة. ثمة شد حبال بين المنظومة الحلوة الحاكمة».
نعود الى أولاد دير الأحمر. فهل سيستمرون بالكلام؟ ألم يتعبوا؟ جوابهم حاسم جازم: «نحن لن نسكت، لن نستسلم. إننا كما الطفل الذي قرر أن يبكي ليأكل. نحن نزعنا ثقتنا بالدولة. أملنا بمساعدة من الجهات المانحة لأن المشروع كبر وكبر وتجاوز حجم هذه الدولة الهزيلة. والأراضي في السهل المحيط باتت بحاجة الى معالجة سريعة وجذرية. تحتاج الأرض الى خمس سنوات على الأقل لتعود ثمارها صالحة للأكل وغير ملوثة. والأرض، من ميل آخر، تحترق إذا تعرضت ثلاث سنوات الى المياه المبتذلة والقذرة.
هناك همس يدور عن نكايات تحدث. في السياسة كثير من النكايات. وهناك بلدات قد تصمت تجاه كل ما يحدث لأن شباباً منها يعملون في محطة التكرير. لن ندخل في تلك التفاصيل لكن سنبقى في الناحية الصحيّة. صحة الأطفال والكهول في المناطق التي تنتشر على مجرى السيل في البقاع الغربي. فليسأل المسؤولون عن سبب إنتشار الأمراض الجلدية والتنفسية والهضمية و… وليتذكروا «القرف»، المتعدد الأوجه، الذي يعيش فيه كثير من اللبنانيين في دير الأحمر والجوار. وماذا بعد؟ من هناك، من حيث قطعنا النفس كثيراً لنصمد، أناس يصرون على البقاء. فهل تكون المجارير سبب الهجرة الجديدة؟