كتب جوني منيّر في “الجمهورية”:
من المبكر بعض الشيء تبيان مضامين الاجتماع الذي عُقد بين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، خصوصاً انّ هذا اللقاء اقتصر عليهما فقط، وانّه تمّ التشديد على انّ تفاصيل النقاش الذي حصل ستبقى طي الكتمان.
لكن الاجواء التي ظلّلت اللقاء يمكن استنتاجها من المجموعات القريبة من الطرفين، إضافة إلى خلفيات كلمات البيان الرسمي الصادر وسطوره. الواضح انّ ماكرون الذي كان أبدى قلقه لسقوط مبادراته اللبنانية للمرة الثالثة على التوالي، سعى من خلال دعوته البطريرك الماروني إلى إعادة تقصير المسافة بينه وبين الساحة المسيحية، وهو ما يدفع إلى الاستنتاج أنّه استعاد خلال لقائه بالبطريرك بعض المحطات التاريخية بين باريس وموارنة لبنان، وغالب الظن انّ البطريرك الراعي الذي حمل معه اوراقاً وبنوداً عدة تمّ درسها بتمهل وتمعّن قبل سفره من بيروت، عمد إلى الإضاءة على المخاطر التي تطاول ما تبقّى من الحضور السياسي المسيحي الحقيقي داخل الدولة اللبنانية.
في اختصار، فإنّ الموقف الفرنسي الذي تراجع خطوات إلى الوراء، تمحور حول عدم تمسّك باريس بأي اسم محدّد، بل بوجوب إنجاز الاستحقاق الرئاسي في حدّ ذاته، والتعاطي بواقعية مع التحدّيات القائمة، مع وجوب احترام إرادة المسيحيين. وهذه الزيارة التي كانت محل رصد ومتابعة، ليس فقط على المستوى الداخلي اللبناني، بل ايضاً على المستوى الخارجي، والمقصود هنا العاصمتين الاميركية والسعودية خصوصاً، أعطت الانطباع أنّ باريس التي أقرّت بسقوط مبادرتها، باشرت في إدخال تعديلات على رؤيتها السياسية تجاه الحل في لبنان.
اوساط ديبلوماسية اميركية في واشنطن وصفت اجتماع الايليزيه بالإيجابي، وأعربت عن تأييدها لحصوله. لكن وفي معرض تقييمها لنتائج الاجتماع، اعتبرت انّه سيؤدي إلى إضافة صعوبات جديدة على الاستحقاق الرئاسي اللبناني وإلى ظهور عِقَد اضافية.
فوفق القراءة الاميركية، فإنّ «حزب الله» الذي لا بدّ انّه قرأ جيداً في التطورات والمستجدات الفرنسية، لن يقبل بهذه البساطة ومجاناً بسقوط خياره الرئاسي. والقراءة الاميركية تستند إلى التجارب التاريخية في هذا الاطار، وقد يكون هنالك رأي داخل الإدارة الاميركية، يحمّل باريس تبعات التعقيدات في ملف الرئاسة اللبنانية، من خلال مقاربتها المبسّطة والمتسرّعة لتحقيق نقاط ومكاسب في لبنان.
الأوساط الديبلوماسية الاميركية نفسها قرأت في المواقف الصادرة على لسان مسؤولين في «حزب الله» فور انتهاء اجتماع باريس، ما يشبه الإقرار بسقوط المبادرة والتلويح بالذهاب إلى فترة فراغ طويلة وتفاقم الأزمات الداخلية.
في المقابل، فإنّ اوساطاً فرنسية وفي معرض تقييمها لما حصل، رأت انّ إدارة هذا الملف وتسويقه لبنانياً كانا فاشلين وبنحو مذهل، فالإحاطة كانت ضعيفة، والتسويق غلب عليه التحدّي لا الإقناع، أضف الى ذلك انّه اظهر وكأنّه سيشكّل انتصاراً لفريق سياسي وطائفي على غيره. كما اعتبرت انّ الاكتفاء بالقول لرئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل بأنّ بديل فرنجية سيعني وصول قائد الجيش العماد جوزف عون، هو تلويح ضعيف وغير متين. فاستخدام اسلوب تخويف الموارنة بعضهم من بعض قد يكون ولّى عليه الزمن.
في كل الحالات، فإنّ الظروف اللبنانية الداخلية باتت تؤشر إلى مراوحة طويلة تستند إلى تصلّب «حزب الله». أضف إلى ذلك، انّ المناخ الخارجي خصوصاً في واشنطن، يعطي الاولوية المطلقة في هذه المرحلة لإيران لناحيتين: الاولى وتتعلق بإنجاز الاتفاق النووي مع كافة المتطلبات السياسية والمالية المحيطة به. والثانية تتعلق بمتابعة الارتدادات والنتائج التي ظهرت إثر الاتفاق السعودي ـ الايراني في بكين، إلى جانب ملف صوغ علاقات جديدة مع ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان، وهو ما يعني انّ الملف اللبناني سيبقى موضوعاً جانباً إلّا اذا دفعت ظروف مفاجئة وغير متوقعة الى تحريكه الآن وعدم الانتظار، خصوصاً انّه يشكّل تفصيلاً مقارنة بالملفات الدسمة والضخمة في المنطقة. ويبدو انّ العواصم الخليجية، وتحديداً الرياض والدوحة، ستعملان على تحريك الملف اللبناني وعدم تركه جانباً، اولاً لأنّ الظروف الداخلية اللبنانية لم تعد تحتمل. وثانياً لأنّ اي نقاط تتحقق على المستوى اللبناني ستؤدي إلى تسهيل الحلول في ساحات اخرى مثل سوريا على سبيل المثال.
وتورد مصادر مطلعة أمثلة على ذلك، ومنها عملية تحرير الرهينة السعودية على يد مخابرات الجيش بعد ساعات على خطفها. ففي قراءة هادئة لنتائج ما حصل، فإنّ الاستنتاج الواضح أنّ تأمين مظلّة سياسية ملائمة تؤدي إلى السماح للجيش بالإمساك بنحو كامل وحازم بالساحة اللبنانية. وتعتقد هذه المصادر أنّ المظلّة السياسية الإقليمية منعت على العصابة اللجوء إلى الاراضي السورية نتيجة التبدّلات الاقليمية الاخيرة، ما جعل مجال مناورة افراد العصابة ضيّقاً.
اضف إلى ذلك، تبرؤ «حزب الله» من تغطية او السماح بتأمين حماية لهؤلاء، نتيجة مستجدات العلاقة السعودية ـ الايرانية. كل ذلك ادّى إلى إقفال الثغرات في وجه الجيش الذي أظهر حرفيته العالية وقدراته الممتازة لإنهاء عملية الخطف بعد ساعات.
واستطراداً، فإنّ تأمين مظلة اقليمية قوية وفق تفاهمات اوسع، تفتح الطريق امام قيام سلطة لبنانية حازمة حاسمة، تعطي الاولوية لضبط الساحة اللبنانية امنياً وايضاً لإعادة الهيبة إلى مؤسسات الدولة، هو الوصفة المثالية لإعادة لبنان إلى طريق التعافي السريع.
وتروي الاوساط الديبلوماسية، أنّ ولي العهد السعودي وكذلك امير قطر، يحضّران كلٌ بمفرده لجولة خارجية ما بين اوروبا والولايات المتحدة الاميركية. على ان يعملا خلال جولتيهماعلى طرح الملف اللبناني ودفعه لإيجاد تسوية له في المرحلة الحالية. وتمّ طرح فكرة مبدئية تقوم على اساس الدعوة لاجتماع الدول الخمس في الدوحة في النصف الثاني من الشهر الجاري، ولكن بعد إنجاز التفاهم المطلوب في العواصم الاميركية والاوروبية. لكن لم يُحسم بعد على اي مستوى ستكون المشاركة. فالاجتماع على مستوى وزراء الخارجية سيعني وضع خريطة طريق ملزمة وبدء العدّ العكسي أمام ولادة الحل، اما على مستوى مسؤولين في وزارات الخارجية فيعني انّ الامور هي في إطار «الدفع» والتحريك لتأمين اجواء الحلول، وانّها بحاجة إلى مزيد من الوقت والجهد.
ووفق التصور الجاري وضعه، فإنّ الوفد القطري الذي كان زار لبنان سابقاً، من المفترض ان يعاود زيارته في جولة ثالثة، ولكن بعد انعقاد الاجتماع الخماسي في حال حصوله.
في انتظار ذلك، من المتوقع ان تشهد الساحة السياسية اللبنانية تصعيداً سياسياً كمرادف لحال الجمود.