IMLebanon

معاناةٌ مستمرّة: المساعد القضائي “كبش محرقة”

كتب أحمد مدلج في “الأخبار”:

الأزمة الاقتصادية مستمرة، وصعوبات المقيمين تتفاقم. استقرار سعر صرف الدولار في الآونة الأخيرة، مع تعديل رواتب القطاع العام، لا يعنيان اختفاء الأزمة ولا أن الانفراج بات قريباً. هذه التعديلات لا تلبّي الاحتياجات الأساسية لموظفي القطاع العام، أو حتى القطاع الخاص. مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمحروقات وارتفاع فواتير الكهرباء والطبابة والتعليم، تكاد هذه الأجور تغطّي تكاليف النقل من الوظيفة وإليها. مع ذلك، نلاحظ استمرار الموظفين من مختلف القطاعات العامة بالحضور إلى عملهم لحسن سير هذه المرافق، ومنهم المساعدون القضائيون داخل قصور العدل. فبعد اعتكاف القضاة الذي دام حوالي خمسة أشهر سنة 2022، استمر المساعدون القضائيون، رغم الظروف نفسها التي عاشها القضاة، بالحضور إلى قصور العدل. ولا يزالون حتى اليوم مستمرين في عملهم وملتزمين بدواماتهم. ولكن، إلى متى سيصمد المساعد القضائي ويستمر بالعمل إذا لم توفّر له الظروف اللازمة لذلك؟

عادت الزحمة إلى أروقة قصور العدل. الأصوات الصاخبة، والملفات التي لا تنتهي، وضغط العمل اليومي في غرف نادراً ما ترى النور ويقتصر العمل داخلها على أضواء الهاتف الخلوي منذ الصباح الباكر حتى مجيء الكهرباء. أما في المضمون، فالظروف المعيشية لموظفي قصور العدل اختلفت كلياً، من دون أي نية صريحة وجدية لتعديل الأجور بما يتناسب مع الغلاء المعيشي. وفوق كل ذلك، غالباً ما يعاتب بعض القضاة أو المحامين المساعد القضائي لتقاعسه وإهمال واجباته، داعين إيّاه لبذل المزيد من الجهد، غافلين عن الأوضاع الاقتصادية التي يعيشونها معاً.

«إذا بدنا حقوقنا بيقولوا عم نْنِقّ»

«رغم كل شي الشغل مستمر لأن عِنّا ضمير، بس لأيمتى؟ المعاش بالبنك ما بيسحّبنا دولار إلا القليل. شو عملت؟ بعت شقفة أرض لإستمر، بس غيري ما عندو هيدا الخيار. وحتى إذا ضلّ الوضع هيك أنا ما رح إقدر كمّل»، يقول رامي، وهو كاتب ومساعد قضائي في قصر عدل بعبدا، لـ«القوس»، متحدثاً عن صعوبة العمل في ظل رواتب فقدت قيمتها.

يلفت إلى أنه يسكن في شحيم وراتبه يبلغ ستة ملايين: «الطريق من بيتي إلى بعبدا بتكلّف 700 ألف، ودوامي يعادل ثلاثة إلى أربعة أيام يعني 14 يوماً بالشهر. تكلفة بدل النقل تفوق راتبي بمليونَين أو ثلاثة ملايين ليرة». يكرر رامي الأرقام ذاتها، حاملاً هاتفه الخلوي ليبرز الرسالة الشهرية التي يتلقاها من حسابه المصرفي عن تحويل مستحقاته التي لا قيمة لها ويضيف: «من بدل نقل لدفع الاشتراك وفاتورة الكهرباء، وبعد ما ذكرت أقساط بنتي المدرسية يلّي بتبلغ 1000$ وبدّهم نشتغل بكل رواق ولا كأنو في شي!». يذكر رامي أن اجتماعاً عُقد الثلاثاء الماضي تضمّن طلب القضاة بأن يُضاعف المساعد القضائي مجهوده للعمل كي «نشغّل قصر عدل بعبدا متل قبل. إنو إيه منشتغل بس هل في رواتب وظروف أفضل؟»، يأتي الجواب: «الحل مش عنا. كيف يمكن يفرضوا عمل إضافي وهني عايشين الأزمة ذاتها؟ بيقولوا متفهمين بس الحل مش عنا. ما بقى عنا القدرة. الكل بيقول شغلتنا النّق. طيب ليش ما حدا بيسعالنا لتحقيق مطالبنا؟ كيف بدّهم ننزل نداوم أكثر والقاضي أوقات ما بيجي إلا نهار واحد؟».

تُعدّ محافظة جبل لبنان ثاني أكبر محافظة، إذ تبلغ مساحتها 1958 كيلومتراً مربّعاً، وتشهد اكتظاظاً سكانياً. ووجود قصر عدلي واحد في بعبدا للمحافظة كلها، لا يمكن أن يلبّي العدد الهائل من الزوار، ما يجعل عمل القاضي كما مساعده أكثر صعوبة. وبالانتقال من بعبدا إلى بيروت، هل يعاني المساعد القضائي في قصر عدل بيروت من الإشكالية نفسها؟

التواصل والتضامن يحلّان الكثير من المشاكل

توضح نسرين، وهي مساعدة قضائية في قصر عدل بيروت، أن العلاقة بين القضاة والموظفين متينة. «صحيح أن المساعد القضائي أساسي لتسيير المحكمة، لكن دوره يتكامل مع القاضي». وتضيف: «الأزمة وضعت حال الجميع تحت الصفر، وأثّرت سلباً على الموظف. ولكن، من المفترض أن يكون لدى الموظف حس إنساني للعمل وتيسير ملفات الجميع عملاً بمبدأ العدالة. متل ما لازم نعمّم بوجود قضاة فاسدين كمان نفس الشي منقوله عن المساعد القضائي. صحيح إنو في مساعدين قضائيين ما بيشتغلوا إلا بالرشى وتحديد موعد جلسات حسب المبلغ، بس هيدا الشي كمان ما بينطبق عالكل». وعن دوام العمل داخل محكمة جناية بيروت تقول: «القضاة يحضرون دائماً والأحكام لا تتكدّس، والتكامل بيننا وبين القضاة هو عبارة عن خطة عمل تتضمّن التواصل مع بعضنا بعضاً. حتى في أوقات بيجي الموظف خمسة أيام». يختلف وضع نسرين عن المساعدين القضائيين الآخرين، إذ إن مكان سكنها على بُعد دقائق من قصر عدل بيروت، ولذلك لا تتكبد أي تكاليف على التنقل. ووفقاً لها فإن «القضاة لا يتلكأون. وإذا غاب قاضٍ ما، يقوم الرئيس الأول بتأمين بديل ونعمل بصورة طبيعية. بالنسبة إلى ظروف العمل، يمكن نحن أكثر قصر عدل عم نقدر نحلّ مشكلاتنا لأنو في تواصل وتفاهم. ولا يوم تأجلت المحكمة لعدم اكتمال الهيئة. فمثلاً إذا لم يأت الموقوف منتواصل مع القاضي لحتى ما يجي. هذه العلاقة سهّلت وتيرة العمل».

لا راحة لقاض من دون مساعد «مرتاح»

تتكرر إضرابات موظفي القطاع العام الذين تدهورت رواتبهم جرّاء انهيار قيمة الليرة منذ عام 2019، كما تشير المحامية عبير محمود عرابي لـ«القوس»، ومن ضمن هؤلاء موظفو قصور العدل. إلّا أن لهذه الفئة أهمية خاصة نظراً إلى ما يرتبط بهم من تقرير مصير حياة كثير من الموقوفين والقضايا المصيرية. ناهيك عن أن وضع قصور العدل بات يشكل عبئاً إضافياً على كاهل هؤلاء، حيث لا كهرباء ولا ماء ولا احتياجات مكتبية أساسية من أقلام وأوراق. تضيف عرابي أن المساعد القضائي يقوم بتسيير هذا المرفق بزيادات في الراتب «أقل ما يقال عنها إنها فتات. في الوقت الذي بدأ فيه القضاة إضرابهم». وتؤكد أن المساعدين القضائيين هم العنصر الأساس في عمل السلطة القضائية، إذ لا عمل لقاضٍ من دون مساعد قضائي، فهو من يتولى تنظيم الملفات والجلسات وتبليغ المدّعين والمدّعى عليهم وتنفيذ قرارات السلطة القضائية. «رغم كل الوعود التي قُطعت على المساعد القضائي، لكنها بقيت وعوداً ولم يتغيّر شيء. في الوقت الذي نرى فيه أن رواتب القضاة قد تحسّنت، وإن بشكل استطرادي، حتى عادوا عن إضرابهم». تلاحظ عرابي أن «هناك فرقاً واضحاً بين تعديل رواتب هاتين الفئتين. فبقيت رواتب الموظفين متدنّية نظراً إلى الوضع المعيشي الصعب، في حين أن رواتب القضاة تحسّنت، من دون أن ننسى أن لكل شخص فئته». وعن حضور الموظفين إلى قصور العدل لاحظت عرابي أن «الموظف مجبر على الحضور بحد أدنى من الأيام، وإن لم يحضر يوجّه إليه تهديد. في حين أن القضاة غير ملزمين بالحضور يومياً. يمكن للقاضي مثلاً ألّا يحضر ولا يبتّ بإخلاء سبيل، بينما في حال لم يحضر المساعد مع القاضي عند إخلاء سبيل، تبدأ سلسلة من الإجراءات التأديبية. مع الإشارة إلى أن الواقع المرير يضغط على الاثنين». وتخلص إلى أن «من حق القاضي أن يحصل على حياة كريمة ورفاهية تؤمن له تسيير مرفقه، إلا أن الظلم بات يطاول الجميع ومن ضمنهم موظفو قصور العدل الذين من حقهم أيضاً الحصول على حياة كريمة، فلا راحة لقاض أثناء وظيفته من دون مساعد قضائي مرتاح».

المحاسبة الشفّافة

«حتى ما قبل أحداث 2019 وجائحة كورونا، المشكلة كانت نفسها، من تراكم الملفات، والبطء في إجراء المعاملات. والسبب الرئيسي لذلك النقص في عدد القضاة، فكيف الحال اليوم في ظل ظروف صعبة؟» تقول المحامية هلا حمزة لـ«القوس». من يتحمّل المسؤولية: القاضي أم المساعد القضائي؟ بحسب حمزة «كل موظف تابع لقاض. فالمسؤولية الأولى تقع على رئيس المحكمة، لكن لا يجوز التعميم. هناك موظفون مهملون، إضافة إلى الرواتب المتدنية. فالمساعد لم يعد لديه القدرة النفسية لبذل المزيد من المجهود للعمل بجدية، ما أدى إلى توقف بعض الموظفين عن العمل». أما بالنسبة إلى حقوق الموظفين فتلفت حمزة إلى أنه «يفترض أن يستحصل عليها الجميع، القاضي والمساعدون القضائيون. إذ إن عدم إعطاء الموظفين حقوقهم يؤدي بشكل عام إلى عدم استقرار في دائرة العمل. فالحل هو رفع أجور المساعد حتى لو عن طريق الهبات». تثير حمزة مسألة المحاسبة قائلة: «نؤمن أنه عند بناء أي بلد، يفترض أن يوضع عامل المحاسبة من الأولويات. ما يحصل اليوم في البلد هو نتيجة عدم وجود محاسبة. التفتيش القضائي اليوم لا يقوم بدوره لأسباب عدة؛ منها النقص في الجسم القضائي». وهذا قد يضاعف مبدأ «اللا محاسبة».

وتضيف: «قد يستعمل القضاة مصطلح: ما عاجبك روح اتشكى، لمعرفة القاضي أن التفتيش القضائي لن يصدر قراراً بحقه. لا أحد قادر على أن يحاسب هذا العدد الصغير من القضاة، وغالباً ما يتّجه القاضي المسؤول عن التفتيش إلى حل المشكلة شفهياً، ويطلب من المحامين أو أصحاب الشكوى عدم تقديمها لعدم التأثير على ترقية القاضي. المعالجة بهذه الطريقة لا تؤدي إلى حل جذري. ويبقى القاضي بلا محاسبة. أنا مع تعزيز مؤسسة التفتيش القضائي ليشمل كل من خالف القانون إن كان قاضياً أو مساعداً قضائياً».
وعن الأجور تعتقد حمزة أن «الأجور المتدنية قد تؤدي إلى الإقدام على الفساد. فالمساعد القضائي جزء من هذا المجتمع وعند عدم قدرته على استحصال حقوقه بشكل شرعي سيسلك طريقاً غير شرعي. لكن لا يجوز تعميم ذلك على الجميع. الإنسان الذي يُقدم تحت عنصر الإكراه على الفساد لا يمكن القول إنه ارتكب جرماً».

عدالة وإنصاف؟

لا يمكن تعميم فساد أو تلكؤ موظف واحد على الجميع، كما لا يمكن أن نُفاجأ في حال قرر الاعتكاف لتحصيل حقوقه. فهو، كما غالبية الموظفين العامّين، الحلقة الأضعف. المساعد القضائي، كما القاضي، يواجه ظروفاً صعبة، وتحميله المزيد من الأعباء في ظل أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة لا يمكن أن يكون عادلاً ومنصفاً. مع فارق أن القاضي موظف فئة أولى، أما المساعد القضائي فهو موظف فئة رابعة وثالثة وخامسة، والتفاوت بالرواتب طبيعي، لكن عدم استحصال حقوق الموظف من الفئة الثالثة والرابعة وحتى الخامسة مع ما يواكب الأزمة الاقتصادية الواقعة هو ظلم بحقه.

ربما من الأفضل التكافل بين الموظفين ضمن السلك الواحد والتضامن لحسن سير العمل والعدالة. إذ لا يمكن لمرافق الدولة ومن ضمنها قصور العدل أن تستمر بموظف دون آخر. ولا يمكن أن تستمر من دون إعطائهم كامل حقوقهم كي ينعموا بحدّ أدنى من العيش الكريم والاستقرار.