كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
بعد أن وطأت قدماه الأراضي اللبنانية مجدداً أمس، يُفترض ان يسترجع الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان المحطات التي أمضاها فيها ما بين بداية صيف 2020 وخريف 2021، بصفته وزيراً للخارجية، حاملاً معه مليارات «سيدر 1» ومجموعة النصائح لتحفيز اللبنانيين على خوض الإصلاحات لتجاوز مجموعة الأزمات التي عاشتها البلاد من دون جدوى. وعليه، ما الذي تغيّر ليغوص مجدداً في المستنقع اللبناني، وهل ستساعده مجموعة الـ «5+ طهران» لتنتشله منه؟
ما بين 23 و24 تموز 2020، كانت إحدى الزيارات التي قام بها الديبلوماسي العتيق والمحنّك جان ايف لودريان لبيروت بصفته وزيراً للخارجية الفرنسية، حيث أمضى يومين التقى خلالهما المسؤولين اللبنانيين الكبار وقيادات روحية، ناقلاً أخطر التحذيرات من الانهيارات المحتملة في لبنان، في رسالتين مزدوجتين تحت «شعار ساعدونا لنساعدكم»: الأولى تتعلق بالإصلاحات الضرورية التي يحتاج اليها لبنان، مؤكّداً انّ مفاعيل مؤتمر «سيدر1» لا تزال قائمة ويمكن تحريك ملياراته الـ11 المرصودة بالتوازي مع تطبيق هذه الإصلاحات الادارية والمالية والسياسية التي تعهّدت بها الحكومة اللبنانية، والتزمتها في هذا المؤتمر ومن قبله في مسلسل مؤتمرات باريس الثلاثة. والثانية، دعم الشعب اللبناني، مشدّداً على وقوف باريس إلى جانبه لمواجهة التحدّيات الكبرى التي عصفت بالبلاد على وقع تداعيات «ثورة 17 تشرين» عام 2019، والأزمة النقدية والمصرفية، قبل ان يتجاوز العالم جائحة «كورونا».
كان ذلك قبل 12 يوماً على جريمة تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020 التي زادت من هول النكبات التي حلّت بلبنان وآثارها التدميرية، واستدرجت الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون للقيام بزيارة عاجلة إلى المدينة المنكوبة في السادس منه، ومعه وفد وزاري واستشاري رفيع المستوى، بطريقة لم يسبقه اليها أحد من قادة العالم. وبعد أن عاد ماكرون مرة أخرى في الاول من ايلول للاحتفال بالذكرى المئوية لإعلان «دولة لبنان الكبير»، والتي أحيا فيها المنظومة السياسية بجمعها على طاولة مستديرة في قصر الصنوبر رغماً عن إرادة اللبنانيين، انتقلت المهّمة الفرنسية بوجهها الديبلوماسي الى لودريان الذي واظب على القيام بزيارات متكرّرة، داعياً الى تنفيذ المبادرة الفرنسية بمراحلها المقترحة.
ولما كان لودريان قد كُلّف تنفيذ تلك المبادرة، كان من الواجب التذكير بما قالت به في أولى محطاتها. فقد دعت الى تشكيل «حكومة مهمّة» تقود الاصلاحات المطلوبة وفق برنامج زمني لم يتعدّ الأشهر الثلاثة، لتأتي بالدعم الدولي. وذلك من اجل مواجهة تداعيات الأزمات التي تشابكت بين صحية ومالية واجتماعية وأمنية وانسانية. وبعد ان فشل سفير لبنان في المانيا مصطفى اديب «صديق الفرنسيين» كما سُمّي في حينه بتنفيذ المهمّة، انتقلت بنحو مفاجئ إلى «المكلّف الطبيعي» الرئيس سعد الحريري، الذي جَهَد لمدة عشرة أشهر لإتمامها، انتهت الى إعادة تكليف الرئيس الحالي لحكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي، الذي نجح بتأليفها في 10 أيلول 2021 من دون القدرة حتى اليوم على تنفيذ تلك «المهمّة» التي رسمت لها المبادرة الماكرونية باعتراف جميع الاطراف من لبنانيين وممن سعوا إلى تقديم العون لفرنسا واللبنانيين.
ليس في ما سبق محاولة لتأريخ تلك المرحلة، إنما للإضاءة على المهمّة الشاقة التي كُلّف بها لودريان وما انتهت اليه من تعثر غداة بدء المهمّة الجديدة التي كُلّف بها. فهو من أمضى عاماً كاملًا متنقلاً بين بيروت وباريس وبعض العواصم المؤثرة لفترة امتدت بين ايلول 2020 وايلول 2021 ناقلاً معه عدداً من الأفكار الاصلاحية لترجمة تلك المبادرة، إذ لم تنفع التحذيرات التي أطلقها في كل مرحلة، وحديثه عن «المستقبل الغامض» في تحفيز اللبنانيين الى المضي في ما يمكن ان يؤدي الى التعافي والانقاذ، قبل ان يعود اليوم الى المسرح عينه للقاء أبطاله انفسهم.
وعليه، وبناءً على ما تقدّم فقد طُرحت في الأوساط الديبلوماسية والسياسية مجموعة من الاسئلة التي تركّزت حول البحث عن الجديد الذي يمكن ان يقود لودريان الى النجاح هذه المرّة. فالتطورات تبدّلت وتغيّرت ظروف إقليمية ودولية على اكثر من مستوى، وجاءت التفاهمات التي تبنّاها «تفاهم بكين» بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الاسلامية الايرانية بمعطيات جديدة انعكست على أجواء المنطقة. وحيث كانت المواجهة قائمة بين الطرفين من اليمن الى العراق وسوريا فلبنان، ولكن لم تظهر مفاعيلها الايجابية بعد على الساحة اللبنانية، بدليل السعي القائم الى ترجمة بعض الأطراف اللبنانيين ما يسمّونه انتصاراتهم في المنطقة، في محاولة لاستثمارها في بيروت.
وانطلاقاً من هذه العناصر، يبقى الرهان قوياً على قدرة لودريان على تطويع اللبنانيين واقتراح ما يمكن ان يشكّل قواسم مشتركة تغيّر في المشهد اللبناني الداخلي وتغيّر في شكل الاصطفاف النيابي السلبي، الذي لم ولن ينتج اي إجماع على احد المرشحين لرئاسة الجمهورية، وسط عدد من الطروحات التي استسلم لها اللبنانيون باحتفاظهم بمواقعهم المتقابلة، كما كرّستها الحلقة الثانية عشرة من مسلسل انتخاب الرئيس في 14 حزيران الجاري، والتي يمكن في حال بقاء المعادلة على ما هي عليه استحالة انتخاب الرئيس العتيد حتى بالأكثرية المطلقة، طالما انّ هناك من لا يريد الانتقال الى الدورات اللاحقة التي تلي الجلسة العامة الاولى قبل إقفال محضرها وطيها لإدراجها على لائحة الجلسات الفاشلة التي لم تحقق الغاية منها.
ولذلك، يبدو من الصعب الحكم على مهمّة لودريان الجديدة، وهي في ساعاتها الاولى، انتظاراً لما يمكن ان تحققه الجولة الكاملة على الاطراف كافة، وتلك المقرّرة على مستوى السفراء ممثلي «لقاء باريس الخماسي» وما يمكن ان تنتهي اليه الاتصالات الجارية على خط السفيرين السعودي والايراني، إن التقيا في ظلّ اي لقاء محتمل تحت اي ظرف ومناسبة، إن صحّت الرواية التي قالت انّ ماكرون طلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان التدخّل لدى طهران لتسهيل الاستحقاق الرئاسي في لبنان، بعدما كانت باريس الوسيط بين طهران ومجموعة الدول المعادية لها، قبل ان تنضم الى لائحة الدول التي توترت علاقاتها بالعاصمة الايرانية لأسباب مختلفة.
عند هذه الرهانات القصيرة المدى، تتوقف القراءات المنتظرة لمهمّة لودريان، لاستكشاف مدى قدرته على تجاوز «المستنقع اللبناني»، بعد إحصاء الغارقين فيه وعدم قدرتهم على الخروج منه. ولعلّ الجديد اليوم يوفّر له هذه القدرة لتنتج زيارته تقريراً ايجابياً يقود الفرنسيين الى ما يريدونه من مهمّته الجديدة والتي لا يمكن ان تكتمل من دون مساندة أطراف «لقاء باريس الخماسي+ طهران» ودعمهم. وما هي إلاّ أيام قليلة وتظهر الصورة كاملة. وإن احتفظ لودريان بصراحته السابقة التي اعتمدها مع اللبنانيين من قبل ولفترة طويلة، لا بدّ من ان يكون واضحاً لجهة نعي مهمّته او الإعلان عن نجاحها، بتوليد اولى خطوات الحل المفقود، والذي لا يمكن إحياؤه إلاّ بانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية.