كتب جوني منيّر في “الجمهورية”:
لا أحد ينتظر نتائج حاسمة لأولى جولات الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لو دريان إلى لبنان. ذلك انّه بات معلوماً انّ العنوان العريض لزيارته هو القيام بأوسع حركة استكشافية لسبر الأغوار الفعلية لجميع القوى السياسية والحزبية والنيابية، قبل ان يعمد إلى وضع خلاصته في تقرير سيرفعه إلى الرئيس الفرنسي والخلية الديبلوماسية في قصر الاليزيه.
لكن ما هو مهمّ في هذه الجولة هو استكشاف المناخ الجديد لخلفية مهمّة المبعوث الرئاسي الفرنسي، لاسيما بعد التعديلات التي شهدها الفريق المعاون لماكرون تجاه مقاربته للملف اللبناني، وايضاً بعد القمة الفرنسية ـ السعودية، وخصوصاً بعد الجلسة التي حملت الرقم 12 في مسار جلسات المجلس النيابي لانتخاب رئيس جديد، والاستنتاجات التي خرجت بها باريس والعواصم المهتّمة.
الأوساط الديبلوماسية المطّلعة وخلافاً للاجتهادات المتسرّعة التي صدرت في بيروت، كشفت انّ مهمة لودريان لا يجب ان تتعدّى نهاية الصيف الجاري، بحيث انّه يجب ان تكون الصورة قد أصبحت واضحة من كافة زواياها عند انتهاء هذه المهلة الزمنية التي تمّ تحديدها.
وفي هذه الأثناء، فإنّ لودريان واستناداً إلى خبرته في السياسة الدولية، وخصوصاً في الشأنين اللبناني والشرق اوسطي، سيعمد إلى وضع اكثر من تصوّر لخريطة طريق الحل المنشود. وهذه أول اشارة واضحة الى أنّه لم يأت وهو يحمل صيغة واحدة سيعمل على تطبيقها، وهو ما كان حاصلاً خلال المرحلة الماضية، لا بل على العكس، فإنّ خريطة الطريق ستكون مبنية على الاستنتاجات التي سيخرج بها من مهمّته، والأهم انّها ستكون وفق صيغ وتصورات عدة.
وسينطلق لودريان في مهمّته الشائكة، وهو يرتكز في شكل أساسي على النتائج التي تمخّضت عن الجلسة الاخيرة لانتخاب رئيس للجمهورية.
كان واضحاً للجميع طريقة توزّع القوى والتوازنات داخل المجلس النيابي، بعيداً من «الهوبرة» التي كانت تسود الحملات الاعلامية، وبالتالي بدا واضحاً محدودية القدرات الانتخابية وسقفها، إن يميناً او يساراً، على الرغم من الضغط الكبير الذي مارسه كل فريق للوصول الى الحدّ الأقصى الممكن والمتاح. أضف إلى ذلك خصوصاً، ابتعاد أصحاب التأثير الاقليمي عن ممارسة اي ضغوط فعلية في اي اتجاه، والمقصود هنا السعودية، بدليل الاقتراع السنّي والذي استقرّ في الوسط ومن دون أي انحياز.
وهو ما يعني أنّ لودريان قد يكون أقرب إلى الاقتناع بضرورة ان يقترب كل فريق خطوة من الفريق الآخر، من خلال تقديم التنازل المطلوب، كمخرج بديهي من الاستمرار في الدوران في حلقة مفرغة، والتي لن تتأخّر في أن تصبح خطيرة وقاتلة، بسبب التوازنات النيابية غير القابلة للكسر.
وانطلاقاً من هذه القراءة، فإنّ الخيار الثالث يصبح الطريق الاكثر منطقية، ولو انّه سيحمل احتمالات متعددة سيعمد لودريان على إدراجها كلها.
وبالتأكيد فإنّ الاقتراح بالذهاب الى انتخابات نيابية مبكرة لا يُعتبر حلاً، لا بل على العكس، فهو سيفتح الابواب امام ضرب الاستقرار الداخلي الهش، وسط الفراغات الكثيرة والمتعددة داخل مواقع الدولة اللبنانية، ووسط حدّة الانقسام الداخلي. وهو ما يعني انّ التوجّه الدولي هو الى تعديل المعادلة التي نشأت مع دخول العماد ميشال عون الى قصر بعبدا عام 2016، لا تكريس العرف الذي قام يومها، وعلى أساس تقاسم النفوذ داخل السلطة، وهو ما ادّى الى انهيار الوضع في لبنان وتفاقم الفساد وانفجار الوضع. فلا الظروف الدولية تسمح بإعطاء النظام السياسي في لبنان جوائز ترضية، ولا في أن يكون البديل عن ذلك ترسيخ أعراف تكون بديلاً ضمنياً عن دستور اتفاق الطائف، ويُعمل وفق قواعدها لاحقاً. وايضاً لا يبدو واقعياً التلويح بالرهان على عامل الوقت لإجبار الجميع على اختيار الرضوخ كبديل عن توسّع رقعة الفوضى، لأنّ لبنان لا يستطيع السباحة بعكس اتجاهات التبريد التي تسير وفقها ساحات الشرق الاوسط، وهنا بيت القصيد.
وخلال لقائه بولي العهد السعودي، أمل ماكرون في أن ينعكس الاتفاق السعودي ـ الايراني ايجاباً على دول الشرق الاوسط وساحاته بما فيه لبنان. وكان جواب بن سلمان، انّه يأمل في ذلك ايضاً، وانّه سيتعاون مع باريس لهذه الغاية. واستطراداً، فإنّ الساحة الاقليمية تبقى الممر الإلزامي والآمن لأخذ لبنان إلى الحقبة الجديدة، وهي حقبة مؤقتة ولكن طويلةن من الاستقرار المفترض، تسمح بإعادة بناء مؤسسات الدولة اللبنانية.
وخلال لقاء تلفزيوني، أعطى الرئيس الايراني ابراهيم رئيسي إشارة اضافية حول قرب إنجاز اتفاق بديل للملف النووي، بعد إشارة مرشد الثورة خامنئي. وقال رئيسي حرفياً، إنّ الاطراف الاخرى قالت إنّها تريد متابعة المسألة النووية عبر طريق غير الاتفاق النووي.
وكلام رئيسي يعني أنّ صيغة جديدة وبديلة يجري العمل عليها. والتلميح اليها عبر أعلى مسؤولين ايرانيين يعني أنّها اصبحت شبه ناضجة. وخلال حديثه، تحدث الرئيس الايراني عن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها إيران، فقال في إطار الدفاع عن حكومته، أنّه ورث عن الحكومة السابقة خزينة فارغة وعجزاً كبيراً في الموازنة، إضافة الى نمو اقتصادي سلبي. والواضح انّه سعى للردّ على الانتقادات الداخلية الحاصلة. وبالتالي فإنّ من السهل الاستنتاج أنّ احد اسباب السلوك السياسي الجديد لإيران في الشرق الاوسط يعود للأزمة الاقتصادية الخانقة التي هدّدت الاستقرار الداخلي. من هنا كان التوجّه إلى تفاهمات جديدة حول البرنامج النووي، وايضاً في اتجاه الانعطافة الكبيرة في العلاقات مع السعودية.
لكن المسألة ليست سحرية، خصوصاً انّ الصيغة الجديدة للاتفاق النووي تتحدث عن فك جزئي عن العقوبات المفروضة وعن تحرير محدّد وليس كاملاً، عن الأصول المالية الإيرانية المجمّدة.
كذلك فإنّ السعودية التي وعدت باستثمارات ضخمة في ايران، تتبع سياسة الخطوة مقابل الخطوة، اي أن تقابل كل تقدّم مطلوب بتحية مقابلة. وكذلك سُجّلت زيارة وزير خارجية ايران لقطر او الدولة الخليجية الأقرب الى السعودية في هذه المرحلة وسلطنة عمان، وهي الدولة التي تحتضن المفاوضات السرية بين طهران وواشنطن، للاتفاق على الصيغة البديلة. لكن الملاحظ انّ حاكم المصرف المركزي الايراني كان قد زار الاسبوع الماضي قطر، وناقش سبل تعزيز التعاون المالي والمصرفي والاقتصادي بين البلدين.
ولا يجب ان يشيح عن بالنا، انّ قطر التي تتولّى دوراً أساسياً في الملف اللبناني، تتحرّك بالتفاهم الكامل مع السعودية، وهي بذلك باتت تمسك بطرفي التأثير في لبنان اي السعودية وايران، اضافة الى وجود تنسيق غير معلن مع فرنسا. أضف إلى ذلك، خصوصاً، الاهتمام الفرنسي ـ القطري المشترك بالغاز اللبناني. هي شراكة نفطية تفتح الابواب امام الشراكة السياسية، لاسيما مع اهتمامات بطول الشاطئ اللبناني وصولاً الى مرفأ طرابلس. أضف الى ذلك تلميحات قطرية الى إيجاد حل «لمسخرة» الكهرباء في لبنان فور إنجاز التفاهم السياسي حيال الرئاسة والحكومة المقبلة.
هي كلها استعدادات مؤاتية ومساعدة، سيستفيد من تأثيراتها لودريان في مهمّته الشائكة، والتي لن تكون قصيرة ولكنها لن تكون طويلة ايضاً او الى ما لا نهاية، كما يتخوف البعض. ستكون اقرب إلى مهمّة «صيفية» وضمن الوقت المطلوب، والذي سيسمح في انتظار إنضاج الظروف الاقليمية اكثر.