كتبت باتريسيا جلاد في “نداء الوطن”:
بُعيد بدء الأزمة المالية في البلاد، انتعش قطاع العقارات على وقع «تقنين» و «حبس» المصارف أموال المودعين، فنشطت عملية شراء الشقق السكنية والأراضي بالشيكات المصرفية بهدف إخراج الأموال من البنوك. وشيئاً فشيئاً راحت تلك الظاهرة تتراجع مع تدهور قيمة الشيك الذي بات يبلغ اليوم نحو 10% نقداً من قيمته، وأضحى الراغب في الشراء والمقتدر يبحث عن «اللقطات» التي باتت اليوم بدورها تتضاءل شيئاً فشيئاً.
في مثل هذا الوقت من العام الماضي كان قطاع العقارات يغرق في جمود كلّي، يتحرّك استثنائياً بين الفينة والأخرى، حينما تكون هناك قطعة أرض «لقطة» من هنا وشقّة بثلث أو نصف السعر من هناك. أما اليوم فنشهد تطلّعاً كي لا نقول حركة خفيفة للشراء أو للإستثمار، رغم قلّة العقود التي تسجّل لدى كتّاب العدل، مع إقفال عدد من الدوائر العقارية أبوابها على وقع بدء حملات مكافحة الفساد من جهة وإضرابات الموظفين العامين من جهة أخرى.
هذا الواقع أوضحه الخبير العقاري رجا مكارم لـ»نداء الوطن»، مشيراً الى «أن القطاع العقاري تحرّك بشكل بسيط جداً بسبب تطلّع المستثمر والمغترب اللبناني الذي يحوز الدولارات الى شراء شقّة في وطنه الأمّ إذا كان سعرها مغرياً، كما حصل في صفقة بيع مهمة لعقار في ميناء الحصن، تمّت بقيمة 42 مليون دولار في حين أن قيمته السوقية تساوي 100 مليون دولار.
بالنسبة الى اللبناني المقيم أو المستثمر والذي يتعامل بالـ»فريش دولار» وصاحب العائد المرتفع من عمله، فهو قد «يودع» بدوره أمواله في عقار أو شقّة بسعر لا يتكرّر، كأن يكون بحسب مكارم «سعر المبيع بقيمة مليون دولار بدلاً من مليوني دولار وهي قيمته الحقيقية، وبذلك بدل إيداع أمواله في «خزنة» المكتب أو في المنزل بسبب انعدام الثقة في البنوك حتى لو فتحت المصارف حسابات بالدولار النقدي، يوظّفها في عقار وهو على دراية أن تلك الصفقة ستنام لسنوات عدة بانتظار استعادة السوق العقارية والدورة الإقتصادية العجلة البعيدة المنال في ظلّ «ركود» الوضع السياسي».
وفي الغضون، نلاحظ استناداً الى مكارم أن «أنظار المستثمر العربي أو الخليجي بدأت تتّجه نحو لبنان مجدّداً بعد طول غياب، للاستثمار عقارياً من خلال شقة أو أرض، إلا أنها لا تزال خجولة بل ضئيلة جداً، مع العلم أن صاحب الدولار النقدي على دراية أن الفرصة وإن اقتنصها اليوم لن تعود عليه بالربحية في المدى المنظور بل البعيد».
أسعار ترتفع بقيمة بسيطة
ومعلوم أن أسعار العقارات «تدحرجت» نزولاً الى نصف أو ربع قيمتها بعد الأزمة المالية والإقتصادية. حول ذلك، يشير مكارم الى أن «أسعار العقارات تنفّست الصعداء خلال العام 2023، وارتفعت اليوم بقيمة بسيطة، لكن نسبتها لا تزال تتراوح بين 50 و60% في المئة من السعر الذي كانت عليه قبل بدء الأزمة المالية في البلاد. علماً أن عجلة سوق الشقق السكنية تحرّكت بشكل أسرع من العقارات والأراضي لأن قيمتها أقلّ من سعر الأرض ولو كانت مساحتها صغيرة، إذ يمكن إيجاد شقة بقيمة 200 ألف دولار في مار مخايل في بيروت مثلاً، بينما قيمة أي أرض بملايين الدولارات. من هنا إتجاه الطبقة المتوسطة و»المحظوظة» أو التي تحصّل راتباً جيداً يبلغ نحو 1500 دولار أو أكثر هو نحو استئجار شقّة أو التقدّم الى «مصرف الإسكان» المتوقّع أن يبدأ بمنح قروض تتراوح بين 40 و50 ألف دولار خارج العاصمة والأرياف. وحول ذلك يسأل مكارم: «من كان يشتري في الماضي شقّة سكنية؟ بل كان الجميع يستأجر، وما الضير من عودة الوضع الى ما كان عليه في العقود الماضية حيث كانت الإيجارات «دارجة»، قبل أن تسلك الموضة طريق شراء الشقق وصولاً الى الفورة العقارية في البلاد». لكن ماذا عن حركة البناء؟
ورش البناء
ورش البناء التي كانت قائمة قبل بدء الأزمة كما هو معروف لا تزال متوقّفة اليوم، بسبب التشابك والخلافات القائمة بين شاري الشقة قبل الأزمة وبين المطوّرين العقاريين، حول آلية تسديد القيمة المتبقّية المترتبة على المشتري وكيفية احتساب الدولار، لذلك فغالبية المشاريع أو ورش البناء لا تزال متوقّفة. أما إقامة ورش سكنية جديدة فلا تزال بدورها خجولة، إذ لا يوجد رخص تُذكر في هذا المجال أكان لبناء شقق سكنية أم مكاتب، ما يوسّع رقعة الإيجار ويقلّص حركة الشراء.
هل يؤدي التعميم 165 دوراً؟
وبالنسبة الى الدور الذي يمكن أن يؤديه التعميم رقم 165 الصادر عن مصرف لبنان والذي يتيح التداول بالشيكات النقدية لا سيما بـ»الفريش دولار»، اعتبر مكارم «أنه لن يحرّك عجلة البيوعات العقارية وإن كان يسهّل عملية نقل الأموال، لأن من يحوز الدولار النقدي ويرغب في الشراء سيقدم على تلك الخطوة أكان من خلال التسديد نقداً أم من خلال شيك «فريش دولار».
من كل ذلك يتبيّن لنا أن الحركة العقارية تتطلب استقراراً سياسياً وعودة القروض المصرفية الى سوق التداول بعد أن توقفت في 26 تشرين الثاني 2019، باعتبارها السبيل الوحيد لتنشيط العجلة العقارية. لكن في ظلّ غياب الإصلاحات والشروع البطيء في إعادة هيكلة القطاع المصرفي يعتبر هذا الأمر صعب التحقّق في المرحلة الراهنة.
مصرف الإسكان
إلا أن «مصرف الإسكان» أحدث خرقاً في منح القروض لمحدودي الدخل وبقيمة تتراوح بين 40 و50 ألف دولار. وحول ذلك أوضح رئيس ومدير عام مصرف الإسكان أنطوان حبيب لـ»نداء الوطن» أن «الموافقات التي أعطيت سابقاً على قرض الإسكان بالليرة اللبنانية بلغت نحو 8000 قرض بانتظار استكمال الشروط المطلوبة والمستندات من إفادة عقارية وسجلّ عدلي… فمن استكمل الشروط تمّت الموافقة على قرضه ومن لم يستكمل لم يحصل على القرض». وبالنسبة الى النسخة الثانية من قرض الصندوق العربي الذي اتّخذ فيه مجلس الوزراء قراراً في 26 أيار 2023 بتعديل قيمته من الليرة الى الدولار وهو يعادل 165 مليون دولار، فيمكن الحصول عى قرض بمعدل قرض 40 ألف دولار لذوي الدخل المحدود و50 ألف دولار لذوي الدخل المتوسط تسدّد على مدار 20 عاماً كحد أقصى و7 سنوات كحدّ أدنى. من هنا فإن «من شأن هذه القروض والتي ترتّب على المقترض تسديد نسبة 20% من قيمة الشقة السكنية، ستمكّن ذوي الدخل المحدود والمتوسّط من شراء شقة خارج العاصمة في الضواحي والأرياف كما أوضح حبيب، ما «سيقلب» عجلة الشراء ويفكّ الخناق عن تلك الطبقة.
إحصاءات المبيعات
سجّل العام 2019 العدد الأدنى من مبيع العقارات والشقق جرّاء الإنفجار المالي والإقتصادي في البلاد. وأوضح الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين لـ»نداء الوطن» أن عدد مبيع الشقق السكنية والعقارات في العام 2019 بلغ 50,352 وهو الرقم الأدنى في السنوات التي تمتدّ من 2017 الى 2022 وبقيمة 6,84 مليارات دولار. إلا أن عدد المبيع قفز في العام 2020 فنشطت عمليات الشراء من خلال الشيكات، وسجّلت حركة مبيع العقارات والشقق ارتفاعاً الى 82,202 (بقيمة 14.39 مليار دولار). وفي العام 2021، تابعت عجلة البيوعات العقارية والسكنية منحاها الصعودي الى 110,094 عملية بيع بقيمة 15.55 مليار دولار، لتنحدر بعد ذلك الى 79,990 في العام 2022 بسبب تهاوي قيمة الشيك السريع مواكبة لانهيار العملة الوطنية أمام الدولار وعدم القبول به الى حدّ ما، في عمليات البيع والشراء والإعتماد على الدولار النقدي.
جملة معضلات
اعتبر رئيس جمعية منشئي وتجار البناء في لبنان إيلي صوما خلال حديثه الى «نداء الوطن» أن وضع قطاع البناء في لبنان يشبه الوضع السياسي القائم، ويعني بذلك أنه غير مريح رغم أن أسعار العقارات تراجعت الى نصف سعرها. فالقطاع العقاري بالنسبة الى صوما «يعيش وضعاً استثنائياً وجموداً، نتيجة المعضلات التالية:
أولاً، الفراغ الرئاسي.
ثانياً، هجرة اللبنانيين الى الخارج، وبالتالي إقدام البعض على بيع منازلهم لا سيما من يغادر الى كندا والولايات المتحدة الأميركية وأستراليا وأفريقيا. أما من يغادر الى دول الخليج فهم يتأنّون في بيع الشقق.
ثالثاً، عدم توفّر خدمة التسليفات من قبل المصارف للتمكن من شراء شقق سكنية. مشيراً الى أن الشقة التي كان سعرها 150 ألف دولار أصبحت بـ75 ألف دولار.
وإذ لفت الى أنه لا يوجد أية بوادر على تحسّن الوضع في لبنان، اعتبر أن البلاد تسير على «صوص ونقطة» آملاً في أن يتحسّن الوضع في الأمد المنظور، وفي المستقبل».