كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
في كلِ مرّة تطلق رصاصة غدر نسمع من يقول: إحذروا الفتنة. هؤلاء القائلون أكثر العالمين أنه لو لم يوجد الفتيل لما كانت نار الفتنة تشتعل. بشري تعيش منذ يومين غلياناً هائلاً. إثنان من أبنائها ما زالا في براد الموت. أما الأحياء ففي عيونهم ألف سؤال وسؤال: ماذا حدث ذاك السبت (الأول من تموز)؟ ولماذا حدث ما حدث؟ من أطلق الرصاصة الأولى على هيثم طوق ولماذا وجهت الرصاصة الثانية نحو مالك طوق؟ هل هي حادثة مدبرة أم مجرد حادثة من سلسلة، تتكرر منذ أربعة عشر عاما، «تضبضبها» الدولة وتقفلها بالشمع الأحمر، على مجهول، بحجة: منع الفتنة؟ صعدنا الى بشري المتشحة بالسواد وتنشقنا رائحة الموت وشعرنا بعمق الغدر وسمعنا أم مالك، محروسة، تنادي ولدها: ولدي حبيبي، مالك قلبي، وينك؟ قبل أن تعود وتنظر الى السماء تناجي العذراء مرددة: يا عدرا ناديتك كثيراً لكنك كنتِ ربما مشغولة!
قبل أن نتوغل في بشري الحزينة سمعنا رجلا حفر العمر خطوطه العميقة على محياه يقول: عندما يُمسك بالسلطة خائن وبالبندقية مجرم يتحول الوطن الى غابة لا تصلح لحياة البشر. حدث ما حدث بعد ظهر السبت. والبارحة يوم الأحد، الأحد المبارك، كانت الصلوات تعلو من كنائس بشري الكثيرة. البشراويون يلجأون دائما الى السماء ويرفعون الصلوات، خصوصاً في المحن، بإيمان كبير. فبين بشري وكنائسها رابط وثيق يُستمد منه الرجاء والقيامة بعد كلِ محنة.
وينو مالك؟
أشجار الأرز تتناثر وشجر التفاح يستعد لموسم جديد. وفي كل موسم تتكرر قصة القرنة السوداء والتنازع على المياه بين بشري والضنية. وهذا قد يكون سبباً لما حدث. وقد تكون هناك أسباب وأسباب أخرى حاولت دولتنا في اليومين الماضيين ضبضبتها. رأس جبران، جبران خليل جبران، يستقبل الزوار شامخاً. البلدة ترتفع 1500 متر عن سطح البحر. لكن أخبارها شغلت كل لبنان، ساحلاً وجبلاً، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً. الصلبان مغروزة في كل مكان. إنها حارسة المدينة. نسأل عن بيت هيثم ومالك طوق. إنهما بالقرب من سنتر طوق. إنهما – أو بالأصح كانا – جيراناً. في المنزلين كثير من البكاء. النساء، نساء كل بشري، متشحات بالأسود. دخلنا الى بيت مالك وهو من جبّ جعفر. هكذا يميّز البشراويون عائلاتهم. الدم يكاد ينفر من العيون مجبولاً بكثير كثير من الغضب. عمر مالك 57 عاماً وهو مزارع (فلاح) بنى نفسه بنفسه وربى إخوته وأخواته بعد موت والده طوق طوق وكان السند وقلب القلب لوالدته الثكلى محروسة. اليوم الإثنين، بعد الظهر يصل إخوته من أستراليا. ومراسم الوداع بانتظارهم. سيأتون لوداع الشقيق الذي كان بمثابة الأب دائماً.
زوجة مالك ليليان تستقبلنا باكية. وقبل أن نعزيها تقول لنا: هل تناولتم الفطور؟ البيت كان ويستمر مفتوحاً وناسه طيبين. الرجال يحللون في ما حدث أما النساء فيواسين الأم والزوجة والأولاد: بطرس وطوني ومايا وريبيكا. صورة مالك في حضن الأم، بالقرب من قلبها، تعصرها. تناجيها. وتتكلم معه بلوعة: يا ما صليت لك يا إمي لتبقى معنا. ما بدك تبقى معنا يا إمي؟ يا مالك لا أحد، لا أحد أبدا يعرف قدي إنت غالي على قلبي. يا إمي يا سياجي يا عضامي خدني معك. تعود وتسأل من حولها: وينو مالك؟ تجيبها إحداهن: إنه في زغرتا في براد مستشفى زغرتا. تسألها: وشو أخدوا لهونيك؟ يا مشحرة يا انا. يا مالك ما بقا رح شوفك. يا دلي قتلولي مالك. جيبوا فرنسا تحدد الأرض، حقنا وحق غيرنا. جيبوا فرنسا. جيبوها…”.
من زمان، تدور الخلافات على الأراضي في القرنة السوداء بين بشري والضنيه والدولة “يا غافل إلك الله”. رمت الدولة هذا الملف وراء ظهرها وانهمكت بفسادها. نذرف الدمع ونحن ننظر الى المرأتين الجبارتين ليليان- الزوجة – ومحروسة – الأم.
طلقات الغدر…
ننتقل الى منزل هيثم جميل طوق. هو من جبّ الهندي. بيته في اسفل الوادي. والدخول إليه ممنوع بأمر من المعزين. فالوالدة، والدة هيثم هند، شبه غائبة عن الوعي. مصيبتها أيضا كبيرة. هي ربت هيثم، صغير البيت (35 عاماً) مع إخوته وحيدة، بعد موت زوجها. وحالتها حالة. نحترم مشيئة المعزين ونقف في الخارج. الكاهن الأب هاني طوق يتابع ما يحدث في أدق التفاصيل. ويقول: أنا كاهن المعاز (كما يحب البعض أن يطلق على الأهالي الذين يربون الماشية ويهتمون بالأرض). هيثم قتل برصاص الغدر في الجرد، في جردنا، نحن آمنا دائماً بالقانون من أجل الحفاظ على مياه الثلاجات، وقدمنا دعوى مع الأوراق الكاملة. لذا، نحن نحمل مسؤولية ما حصل للقضاء وللسياسيين الذين يمارسون الضغوطات. هؤلاء سيتحملون دماء هيثم ومالك الى يوم الدين. أهالي الضنيه جيراننا منذ أكثر من 300 أو 400 عام. نعيش معاً في السراء والضراء. ونحن اعتدنا ان نأخذ ونعطي معهم لكن أحبك يا جاري أنت في دارك وأنا في داري. نحن نتعاطى مع الموضوع ضمن خطوط حمراء لا ولن تصل الى القتل لكنهم تجاوزوا كل الخطوط. سلمنا أمرنا الى القضاء وقلنا له: هذه أرضنا وهذا تاريخنا”. يقاطع كلام الأب طوق أحد المعزين الغاضبين: إذا لم نجد من يدافع عنا سندافع عن أنفسنا. نحن أولاد الأرض. شرشحوا الكاهن. أخذوا – الجيش اللبناني- الشاب رياض طوق من بين يديه. خمسة شبان أخذوهم من قلب البلدة ووضعوهم في وزارة الدفاع (عرفنا لاحقا انهم عادوا وأطلقوا سراحهم بعد 24 ساعة).
غضب كبير يسود في بيت هيثم. هو يصعد دائما الى القرنة السوداء، يأخذ الطعام الى المعاز، ويوم السبت أخذ بيرة ولوز مع عدد من الأصدقاء، كما عادتهم. عادوا هم وأعيد هو جثة. مات قنصاً. هذا ما قيل. دخلت رصاصة من خاصرته وخرجت من الخاصرة الثانية. أما مالك فعندما سمع بالخبر هرول في اتجاه القرنة السوداء مع شباب البلدة. وهناك، مات برصاصة وبقي ينزف طوال أربع ساعات. هو لم يقبل ان يشهد وفاة هيثم، الذي هو مثل ابنه، فالتحق به شهيداً.
الخوف من الآتي
ننظر الى العيون التي يتطاير منها الغضب. نسمع أحدهم يقول: الغضب والدموع والحزن هي أسلحة المستسلمين. نحن لا ولن نستسلم. البارحة شهدنا حالتين في بشري. أناس يتحدثون عن الإنتقام ولو بعد حين وأناس يتحدثون عن الشر. وأكبر شرّ عدا الظلم هو أن لا يدفع الظالم ثمن ظلمه. نرى الأب هاني طوق بين جميع هؤلاء يحاول إستيعابهم ليقي البلدة شرّ الظلم والغضب.
جلنا البارحة مراراً بين منزلي المغدورين بحثاً عن حقيقة يراوغ المسؤولون في إعلانها. مالك كان مالكاً قلوب الكثيرين وهيثم كان مندفعاً كريم النفس آدمياً طيباً عاش الفقر والفاقة وأمه ربته وقاسته وهو يكبر بالشبر والنذور. هو ملتزم بالكنيسة وطاهر القلب. قصدنا كنيسة السيدة حيث سيوارى جثمانا مالك وهيثم اليوم، عند الخامسة عصراً، الثرى. دخلنا الى البراد في الكنيسة وألقينا نظرة سريعة على وجه هيثم جميل هندي طوق. هو ربما إرتاح اليوم من أشرار هذا الزمان ولكن ماذا عن الايام الآتية؟ سؤالٌ يجيب عنه كثيرون بالقول: الآتي قد يكون أعظم إذا لم يقم القضاء بواجبه.
معلومات ونظريات
فلنبحث عن التفاصيل أكثر. ماذا حدث في جرود القرنة السوداء بعد ظهر السبت في الأول من تموز؟ المعلومات الرسمية تستمر ضبابية. وهناك من يرفض مقولة: قتل برصاصة قناص. وسمعنا عن سجال حصل في إعداد تقرير الطبيب الشرعي في حادثة مقتل هيثم. هناك من قال إنه مات برصاصة دخلت في ضلعه بمسدس ستة ميليمترات. هي رصاصة بالكاد تصيب عن بعد مترين أو ثلاثة. وبين بقاعصفرين أول بلدة لناحية الضنيه والقرنة السوداء حيث قتل هيثم ،12 كيلومتراً. إذا صحّ ذلك تكون نظرية القنص ساقطة.
فلنعد الى نظرية القنص. المعلومات الأولية تقول إن القناص أطلق رصاصته عن بعد 800 متر فكيف دخل الى أراضي تعتبر عسكرية؟ والسؤال الآخر، كم كان هذا القناص محترفاً كي يصيب هيثم إصابة قاتلة من ذاك البعد؟ نظرية إحتراف القناص مخيفة. فمن أين أتى؟ والى من ينتمي؟ هل الرصاصة انطلقت من منطقة الشرق، من الهرمل، حيث هناك جماعة الحزب (حزب الله) أم من بقاعصفرين؟ كان يجب على الأجهزة الأمنية تحديد نوع الرصاصة وعيارها ومن أي اتجاه أتت. من بندقية أم من مسدس؟ تقدير ما حدث لن يكون من دون معرفة كل هذه التفاصيل التي تم على ما يبدو إخفاؤها قصداً لا سهواً.
هيثم قتل برصاصة مجهولة المصدر. من أجل النباريج التي يمدها الضناويون أم لسبب آخر يراد منه إثارة الفتنة والبلبلة وتحوير اتجاه سياسي ما في البلد؟ كل شيء جائز في لبناننا. ووحدهم أهالي الشهيدين يبكون اليوم دماً.
المنطقة عسكرية. الجيش قال ذلك في بيان سابق. فلماذا صعد هيثم ورفاقه الى فوق؟ سؤال يطرح والإجابة عنه بلسان الأهالي: لم يمنع الجيش يوماً الأهالي من الصعود وهناك على تلال القرنة السوداء عشرات الرعاة اليوم. وشبان بشري إستمروا في الصعود الى فوق. والأحرى أن يطرح السؤال بصيغة: من يتجرأ على إطلاق رصاصة في منطقة عسكرية أمنية؟
القصة تتراكم منذ أكثر من عقد. دولتنا رسمت الحدود البحرية مع دولة إسرائيل وتمتنع عن ترسيم الجرود بين منطقتين يتنازع أهلها على مياهها. فأي هستيريا نعيشها؟ بشري على جمر. وأهلها يقولون: نحن عشيرة لا ننام على ضيم. سؤال آخر طرح فوق: لماذا إنهال عناصر الجيش اللبناني بوابل الرصاص والقنابل على شبان بشري وأهملوا من أثار الفتنة؟ الجيش مسؤول. والكل، الكل، مسؤولون حتى جلاء الحقيقة.
أجراس الكنائس تقرع منذ يومين. البلدة غاضبة. ناسها يعانون اليوم ويستذكرون أحداثا كثيرة في الحرب وفي السلام دفعوا ثمنها إضطهاداً. هناك دائما من يرسم السيناريوهات ويوقع الناس في شباكها. فهل وقع هيثم ومالك وبشري والجيش اللبناني اليوم في الشباك؟
نرسم شارة الصليب ونعود أدراجنا الى بيروت وصدى صوت الوالدة الثكلى محروسة غصة في البال والقلب والجوارح: يا دلي أنا ما بقا رح شوفك يا مالك؟ يا حرام على ما تعيشه اليوم بشري وكل لبنان، لبنان النظيف. والسؤال الذي يستمرّ يلحّ في البال: ماذا بعدغضب بشري؟ اليوم يُدفن الشهيدان وغداً يوم جديد.