كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
لا يفعل السياسيون في لبنان شيئاً في هذه الأيام سوى استجداء الحل من باريس. لكن باريس الغارقة في أزمتها الطارئة، ليس أمامها سوى استجداء الحلول من عواصم اللقاء الخماسي وطهران. وهكذا «مِن هالِك إلى مالِك»، أي فرصة تبقى للتسوية؟
عندما أنجز الموفد الفرنسي جان إيف لودريان أولى جولاته التفاوضية في بيروت، بحثاً عن تسوية، لم يخطر في باله أنّه سيعود إلى باريس ليجدها غارقة في أزمة داخلية حادّة، ويجد الرئيس إيمانويل ماكرون منهمكاً في حماية استقرار فرنسا، وغير قادر على الاستماع إلى التفاصيل اللبنانية المثيرة للضجر.
للإيضاح، باريس ليست معرّضة لتهديد حقيقي داخلياً، وليست مبرّرة مبالغة بعض المحللين في تضخيم الأزمة. فحادثة مقتل الشاب ذي الأصول الجزائرية سلكت طريقها إلى المعالجة ضمن الأطر القانونية. وموجة الاعتراض العنيفة التي عمّت الشارع، في العديد من المدن، بلغت مداها الأوسع، وهي ستتوقف، على غرار الحراك الاعتراضي على سن التقاعد، وحراك «السترات الصفر» سابقاً.
لكن هذه الحادثة لن تمرّ من دون انعكاسات اجتماعية وسياسية. ويعتقد بعض الخبراء، أنّ ما جرى سيؤدي إلى تقليص حجم الكتلة المعتدلة داخل الرأي العام الفرنسي، لمصلحة المتطرفين.
فاليمين المعتدل سوف يتقلّص بنسبة معينة، كما اليسار المعتدل، وكذلك فئة المترددين، لمصلحة جهتين متطرفتين: اليمين المتطرّف القلق على «هوية فرنسا» من تأثيرات المهاجرين المسلمين والعرب، واليسار المتطرّف الرافض للنزعة العنصرية داخل المجتمع الفرنسي.
في أي حال، ما يهمّ القوى الدولية إجمالاً، هو أن تتمّ معالجة الوضع، فلا يؤدي إلى زعزعة الاستقرار في فرنسا أو إرباك سلطة ماكرون وحكومته، ما يشكّل اختلالاً للتوازنات الدولية، خصوصاً في لحظة المواجهة الصعبة في أوكرانيا.
المطلّعون يجزمون أنّ الأزمة الحالية لن تؤثر سلباً على حكومة ماكرون. ولذلك، هو ليس قلقاً على استقرار النظام. وما يؤكّد هذا التصور هو أنّ فرنسا ليست مقبلة على أي استحقاق انتخابي في موعد قريب، وأنّها أنجزت انتخاباتها الرئاسية والتشريعية العام الفائت. ولذلك لن تتعرّض شعبية الرئيس الفرنسي للاختبار، كما أنّ الحكومة الحالية ليست معرّضة للسقوط بنزع الثقة.
إذاً، ستتجاوز باريس مأزقها الحالي، حتى لو كانت حادثة مقتل الشاب مدبّرة سياسياً، بهدف إضعاف ماكرون أو رفع مستويات التطرّف داخل الرأي العام الفرنسي، والتأسيس لوقائع سياسية جديدة في فرنسا، على غرار ما جرى في دول أوروبية أخرى، حيث تمكّن اليمين المتطرّف من بلوغ السلطة. ولكن هاجس ماكرون الأول حالياً هو تطويق النار التي اندلعت فجأة.
ويقول المطلعون، إنّ الرئيس الفرنسي يسعى جاهداً لإنهاء هذه الأزمة تماماً قبل حلول العيد الوطني في 14 تموز. فهو لا يريد أن تنغّص هذه الحادثة وذيولها صفاء الاحتفال بالمناسبة الوطنية. وعلى العكس، هو يريد الاستفادة من مناسبة 14 تموزلإذكاء روح التضامن الوطنية.
ما يعني اللبنانيين مباشرة في هذه المسألة هو أنّ ماكرون، وعلى الأقل حتى ذلك الحين، لن يكون قادراً على إيلاء المسائل اللبنانية ما يكفي من الوقت والجهد. ولذلك، إنّ موفده لودريان لن يجد الظرف الملائم للبحث معه في التعقيدات اللبنانية المثيرة للضجر، ولن يُتاح له البحث عن سبل جديدة لمعالجتها.
ومن شأن هذا الأمر أن يؤخّر مهمّة الموفد الفرنسي في حدود معينة. ففي برنامج الرجل زيارتان وشيكتان للرياض والدوحة، واتصالات مع واشنطن وطهران، بهدف تذليل العقبات التي اعترضت مهمّته في بيروت. ولكن، ليس مؤكّداً أنّ الانشغالات الفرنسية الداخلية ستتيح له القيام بهذه المهمّات عاجلاً.
وثمة من يعتقد أنّ عودة لودريان إلى بيروت ستتأخّر أيضاً، بعدما كان مقرراً أن تتمّ بعد عطلة العيد الوطني مباشرة. لكن المطلعين على مناخ الاتصالات التي أجراها الموفد الفرنسي في بيروت، رصدوا رغبة لبنانية وفرنسية في إتمام الزيارة في موعدها، أياً كانت الظروف، ومحاولة تحقيق إنجاز معين قبل انتهاء تموز الجاري، الموعد المرتقب لانتهاء ولاية حاكم المصرف المركزي رياض سلامة.
فخلال الجولة التي أجراها لودريان، تبلّغ من مرجعيات لبنانية عدة حرصها على ضرورة ابتكار تسوية سياسية تملأ الفراغ في المؤسسات وتؤمّن تغطية لمرحلة ما بعد سلامة، نظراً إلى المخاطر التي تعترض الوضعين المالي والنقدي. وقد جاء تقرير صندوق النقد الدولي عن المخاطر المحتملة، ليدعم الحاجة الملحّة إلى تسوية سياسية توفّر أرضية للإصلاحات المطلوبة.
في هذا المناخ الضاغط، هل هناك فرص حقيقية لتحقيق تسوية في غضون الأسابيع القليلة المقبلة؟
على الأرجح، بين الضغوط التي تعيشها إدارة ماكرون داخلياً، والتباينات الحادة بين أركان اللقاء الخماسي، والحاجة إلى إرضاء إيران ودمشق، تبدو المرحلة المقبلة محكومة بالمراوحة والانتظار و»الترقيع» على الطريقة اللبنانية.