IMLebanon

أبعد من “القرنة السوداء”: تعطيل القضاء يعيق حل النزاعات

كتبت جنى الدهيبي في “المدن”:

مرّ أسبوع على جريمة القرنة السوداء، التي سقط ضحيتها الشابان هيثم ومالك طوق، من بشري، فيما التحقيقات لم تكشف بعد ملابسات الجريمة كاملة، حيث تشرف عليها قاضية التحقيق الأول في الشمال سمرندا نصار، بعدما ألقى الجيش القبض على نحو 19 شخصًا معظمهم من بقاعصرفين وبعضهم من بشري.

لكن حدود هذه الجريمة تتجاوز النزاع على الملكيات العقارية وجرّ المياه. وكشف الاعتراض الواسع على اللجنة التي شكلها رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، لدراسة مسألة النزاعات بين الحدود العقارية والنزاعات على المياه في أكثر من منطقة وجرى تجديدها، مستوى الأزمة العميقة التي جمدت بدورها عمل اللجنة.

عمليًا، يجمع خبراء قانونيون أن دعوة ميقاتي بعد جريمة القرنة السوداء لم تكن بمكانها، خصوصًا أن النزاعات العقارية، مع ما تضمره من صراعات طائفية ومناطقية وعائلية، هي مسألة قضائية، تحتاج إلى البت والفصل في القضاء العقاري حصرًا.

تطييف العقارات؟

وواقع الحال، يستغرب كثيرون صبغ النزاعات العقارية بأبعاد طائفية، واستغلالها سياسيًا، لدرجة أن البعض وجد فيها توطئة للتقسيم والفدرالية. علمًا أن هذه النزاعات تقع أيضًا بين مناطق من لون طائفي واحد، لتأخذ أبعادًا مناطقية وعشائرية وعائلية، كما هو الحال في النزاع على ملكية القموعة بين منطقتي فنيدق وعكار العتيقة شمالًا، وبين شقرا وميس الجبل جنوبًا، وغيرها.

غير أن هذه الخلافات التي غالبًا ما تقع بين مناطق مختلفة طائفيًا، ترتبط أصلًا بواقع عقاري معقد في لبنان، نتيجة وجود نحو 35٪ من الأراضي اللبنانية بلا وثائق رسمية، لأنها من “الأراضي غير الممسوحة”، وفق تقديرات مديرية الشؤون العقارية. في حين، يقف الجيش غالبًا كمتراس بين المتصارعين على ملكية الأراضي. وهو ما سبق أن حصل في “لاسا” في جرود جبيل، والتي تشهد صراعًا على ملكيتها بين البطريركية المارونية وبين عائلات من الطائفة الشيعية.

تعقيدات قضائية تاريخية

وفيما طلب رئيس الحكومة من وزير العدل هنري خوري متابعة ملف النزاعات العقارية مع مجلس القضاء الأعلى، وذلك بعد تجميد عمل اللجنة التي اقترحها، يشير مصدر قضائي مطلع بأن مسألة البت بهذا الملف معقدة للغاية، وأن حدود وزير العدل لا تتجاوز المتابعة الروتينية، لأن مختلف الملفات عالقة عند القضاة العقاريين. وهؤلاء وحدهم، يمكنهم البت حصرًا بما يُعرف عقاريًا بـ”أعمال التحديد والتحرير”، التي سبق أن بدأت بعهد الانتداب الفرنسي، لكنها أصبحت شبه عالقة منذ السبعينات، وبداية الحرب الأهلية اللبنانية.

أما بما يخص القرنة السوداء، فإنها تشهد موسميًا هذه الحالة من النزاع. لكنها بلغت ذروتها بسقوط قتيلين من قضاء بشري، رغم عدم الكشف عن الحقيقة الفعلية للجريمة. واللافت أن كلًا من بشري والضنية، يتذرعان بامتلاكهما الوثائق والخرائط التي تجزم بتبعية الأرض لكل منهما. من جهة، يقول أهالي الضنية أن القرنة السوداء ملكيتها كاملة لهم تاريخيًا، ويستندون لخرائط غير رسمية موجودة لدى الجيش اللبناني. ومن جهة أخرى، يقول أهالي بشري ويؤكدون على امتلاكهم لمستندات تعود إلى نحو مئة سنة، تثبت ملكيتهم للقرنة.

مستندات وخرائط

لكن، مع انطلاق “المشروع الأخضر” من وزارة الزراعة لحفر بركة في موقع على تلّة سمارة في القرنة السوداء قبل سنوات، تصاعد النزاع  بين المنطقتين على المياه كما الأرض. وفيما تعتبر بلدية بقاعصفرين أن المشروع حاجة ملحة لإنعاش القطاع الزراعي في جرودها، ترد بلدية بشري بأن المشروع مخالف قانونيًا لأنه يُقام على أرضٍ متنازع على ملكيتها بين البلدتين. مع الإشارة هنا، أنه في العام 1998، صدر قرار رسمي قضى بتصنيف جبل المكمل-القرنة السوداء، من المواقع الطبيعية الخاضعة لحماية وزارة البيئة، وحظر فيه جميع أنواع الحفر التي تهدف لاستغلال مياه المتساقطات والثلوج على ارتفاع أكثر من 2400 متر.

وهنا، يوضح المرجع القضائي لـ”المدن”، بأن ملف القرنة السوداء عالق منذ السبعينات بعد إطلاق عمليات المسح العقاري. غير أن القاضية العقارية في الشمال تيريز مقوم، ومنذ العام 2018، شكلت لجنة من مساحي الدولة لدراسة المستندات والخرائط المقدمة من الطرفين، ومتابعة أعمال الكيل. لكن استكمال العمل الذي صار يتطلب جهودًا فنية عالية، لم يمنعها من تسويغ قرارات بناء على أعمال فنية بدائية على الأرض، من دون الانتقال بعد إلى مرحلة “التحديد والتحرير” العقاري، التي تستوجب مسارًا طويلًا. ويبدو أن المسار عالق عند الخشية من تأجيج الصراع الطائفي السياسي القائم.

وعليه، يجمع خبراء بأن لا حل للنزاعات العقارية كما الحال بالقرنة السوداء إلا بالقانون والقضاء العقاري، من أجل الفصل في حماية المشاعات وأملاك الدولة والأملاك الخاصة. وإلا ستبقى مشاعات سائبة لشتى أشكال الصراعات.