بقلم الدكتور جورج شبلي:
في زمنِ البلبلةِ والضَّياع، ما أحوجَنا الى مُناخِ القِيَمِ ينشرُها الحِوارُ البهيّ، والجديّ، والمُثقَلُ بالثّقافةِ، وعمقِ الرؤيةِ، ووضوحِ المَرامي، والرَوِيّة. ما أحوجَنا الى حِوارٍ ينمازُ بسياسةِ العقل، هاجسُه زيادةُ الخيرِ لإِنقاصِ الشرّ، وتدميرُ الباطلِ لإحياءِ الحقّ، وهكذا، تنبثقُ من إيقاعاتِه قيامة.
لطالما كان للحِوارِ الأصيلِ حضورٌ نابضٌ يتوقُ الى مجتمعٍ فاضلٍ لا تُديرُهُ وحوش، إنّما رُسُلُ فكرٍ، وصفاء. ولمّا كان أكثرُ مجتمعاتِ الدّنيا، يتسرّبُ من بُؤَرِ العنفِ، والفوضى، والفساد، بسببِ حُكمٍ أَعوَج، أو غيابِ السلطة، ما يسوقُ الناسَ الى التألّمِ والتظلّم، لم يكنْ بالمرصادِ إلّا الحِوارُ السليمُ الطَّبعِ، والحرُّ النّقد، بعيداً عن التّزييفِ، والتّزليف، يُتقِنُ التّوصيفَ المجرَّدَ، والتّوجيهَ الرّشيدَ، ويلتزمُ الجرأةَ، والاتّزانَ، مذهباً وطريقاً. إنّ الحِوارَ هو ترسيخٌ لذاكرةِ الأحداثِ، والأسرارِ، والوقائعِ، والتّواريخِ، لذلك، فأيُّ تشويهٍ للحقائقِ، وتعطيلٍ للصّدق، لأيِّ سببٍ ومصلحةٍ واستغلال، لن يمرَّ، وستواجهُهُ لهجةٌ تَبني وَعياً بنبرةٍ واثقة.
كثيرونَ اعتبروا الحِوارَ مجرَّدَ كلامٍ لا طائلَ تحتَه، وهذا ليسَ بعيداً عن توصيفِ الكثيرِ من الحِواراتِ الكلاميّة الفارغة، عندَنا، لكنّه لا ينصفهُ، ويسجنُهُ في نطاقٍ بَخسٍ، وهذا من أكبرِ الأخطاء. فالحِوارُ الحرُّ الرّاقي يختبرُ الوقائعَ، على اختلافِها، يُعبِّرُ عنها ويحملُها الى النّاس، بعدَ أن يُعمِلَ فيها بحثاً، وتحقيقاً، ودراسةً، ويُخضعَها لنقدٍ منهجيٍّ، ليقفَ على مفاتيحِها، ويوضحَ ما تستبطنُ في ثناياها، ويُعلِّقَ على مضامينِها وأهدافِها، ويتخّذَ منها موقفاً رزيناً، ويعرضَ لها حلولاً ناجعة… كلُّ هذا يكسرُ قالبَ ” الحَكِي ” في الحِوار، أو قالبَ مفهومِهِ الكلاسيكيّ الضيّق، ويمدُّه بديناميكيّةِ المنطقِ النّقديّ، المُوَجِّه، فأسلوبُ الحِوارِ ليس أسلوباً تقريريّاً، فقط، إنّما هو يتجاوزُ هذا “السّجنَ ” المحدود، الى عِلميّةٍ حيويّةٍ منفتحةٍ تجعلُ عمليّةَ الفَهمِ تصلُ الى منتهاها لدى المُتلَقّي.
لسنا نُنكِرُ على بعضِ المتحاوِرين تَعَصُّباً، وتزمُّتاً، وسوقيّةً، وهَذَياناً… فمجالُ الحِوارِ لا يقودُ، كلُّهُ، الى الترقّي. فالمؤثِّراتُ كثيرةٌ، منها الذاتيّةُ، ومنها الخارجةُ عن الذّات، وينطبقُ على الحِوارِ، في هذا المجالِ، ما أشارَ إليه “ابن خلدون” في مسألةِ أخطاءِ المؤرِّخين، من تَشَيُّعٍ لجهةٍ سياسيّةٍ أو دينيّة يُبعِدُ عن التحيُّدِ والتجرّد، ومن تزلُّفٍ لأصحابِ المناصبِ والسلطةِ جَلباً لمنفعة، فتُجَسَّمُ حسناتٌ مُتَخَيَّلٌ أكثرُها، ويُبالَغُ في سيّئاتٍ لخصومِ هؤلاء… كلُّ ذلك يُبعِدُ الحِوارَ عن العقلِ وعن العِلم، ويجعلُ المُحاوِرَ أَشبهَ بالحَكَواتي، ليس إلّا.
يمكنُ لأَحدِهم أن يتّهمَنا بأنّنا، إذ نفرضُ شروطاً على الحِوار، نُقَيِّدُ الحريّةَ الحِواريّة، ونقضي على طلاقةِ مجالاتِها. إنّ محطّتَنا، في مقاربةِ مفهومِ الحِوار، ليسَت حجزَه في عالَمِ المُثُل، بل هي مخصَّصَةٌ لجَعلِ القيِّمين عليه يُدرِكون أنّ الحريّةَ في الحِوارِ لا تعني التفلّت، والفوضى، ودَكَّ أسسِ القِيَمِ، ومقاييسِ المُمكِنِ والمقبول… ساعتذاك، يُخفِضُ الحِوارُ جناحَيه للباطل، ليُصبحَ جسداً ميتاً. إنّ الحريّةَ المُصَوّنةَ بالعقلِ، والأخلاق، تملأُ مصابيحَ الحِوارِ بالزّيتِ الكريم، وتُفسِحُ للحقيقةِ مَفسحاً في ظلِّها، ويطلُّ عليها الصّدقُ بيومِها الأبيض. أمّا الهاجسُ المُتَمِّمُ لقَلَقِنا، ففي استسلامِ أكثرِ المُتحاوِرين، لوباءِ سوءِ السّلوكِ، وانتهاكِ الحُرُمات، واعتمادِ البذاءةِ في الكلام…ما يحوِّلُ الحِوارَ سفينةً على أرضٍ يابسة.
إنّ الحقَّ في الحِوارِ مكفولٌ بالدّستور، وهو بَندٌ أساسيٌّ في شرعة حقوق الإنسان، وهذا يعني، تماماً، اعترافاً دوليّاً بتَلازُمِ هذا الحقّ مع قيمةِ الإنسان، وكرامتِهِ، وحريّتِهِ. لكنّ الدّساتيرَ، والقانونَ الدوليَّ، وفي ضوءِ تكرارِ انتهاكِ الأصولِ، وفي مقدّمها أنّ حريّةَ أحدِنا تتوقّفُ عندَ حدودِ حريّةِ غيرِه، اضطُرَّت الى وضعِ قيودٍ مُلزِمَةٍ تُفيدُ بأنّ الحريّةَ في الحِوارِ ليسَت مُطلَقَة، وبالتالي، فإنّ هذا القرارَ ليسَ قَمعاً للحريّةِ، أو تَضييقاً عليها، بِقَدرِ ما يحافظُ على نُبلِ الحِوارِ وفائدتِهِ.
وإذا كانتِ الصورةُ، عندَنا، قاتمة، بإفراغِ حريّةِ الحِوارِ من معناها، ووضعِ المتحاورينَ الأحرارَ تحتَ المقصلة، بقرارٍ تُمليهِ فوَّهةُ الفوقيّةِ، والإستقواء، والتسلّط، وفَرضِ الرأيِ المُعَلَّب، فأيُّ قيمةٍ، بعدُ، للحريةِ في بلدٍ يرفعُ الحِواريّونَ المُدَجَّنونَ أيديَهم للموافقة، والإذعان، ويتحسَّسُ الأقلّون، منهم، رِقابَهم ليتأكّدوا من بقائِها فوقَ أكتافِهم ؟؟؟