جاء في “الجمهورية”:
أزمة الرئاسة في لبنان ما زالت في المربّع الأول الذي دخلت فيه مع انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون قبل نحو 9 أشهر، وليس ما يؤشّر حتى الآن، إلى خروجها منه في المدى المنظور.
وإذا كان الحلّ الرئاسي مفقوداً في الداخل، فإنّه منعدم كلّياً من الخارج، والحراكات العربيّة والدوليّة التي تحصل بين الحين والآخر، تارة في فرنسا، وتارة في الدوحة، وكذلك الزيارات الاستطلاعية الى بيروت، فإنّ القاسم المشترك بينها هو انّها جميعها بلا بركة، ولم تتمكّن من دفع الأزمة الرئاسيّة ولو خطوة واحدة خارج مربّع التعطيل.
الخماسية؛ الاميركيّة – السعوديّة – الفرنسيّة – القطريّة – الفرنسيّة، وفي سياق ما قالت انّه تعبير عن تعاطيها الجدّي مع الملف الرئاسي اللبناني، اجتمعت في الدوحة الاثنين الماضي، وخرجت ببيان فضفاض تقاطعت القراءات لمضمونه على انّه لم يرق إلى مستوى الآمال التي عُلّقت على اجتماع «الخماسيّة» قبل انعقاده، وقاربته كمحطة تذخيريّة لمهمّة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان في بيروت بما يجعلها تأسيسية لانفراج رئاسي.
بيان مستعمل
في الشكل، بدا البيان عالي النبرة، انما في مضمونه جاء مستنسخاً بكل تفاصيله عن بيانات سابقة، ولعلّ عودة لعشرة أشهر الى الوراء، تؤكّد انّ بيان «خماسية الدوحة»، هو «بيان مستعمل»، حيث انّ مضمونه بحرفيته ورد في بيان وزراء خارجية الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا والسعودية الذي اصدروه بعد اجتماعهم في نيويورك على هامش اعمال الجمعية العمومية للامم المتحدة في ايلول من العام الماضي. وكذلك في سلسلة المواقف الغربية وبيانات الاتحاد الاوروبي تحديداً التي اعتمدت منطق الترغيب بمساعدات والترهيب بعقوبات على معطلّي انتخاب رئيس الجمهورية.
هذا البيان المكرّر، الذي يبدو انّه أقصى ما يمكن أن يُقدّم للبنان في هذه المرحلة، أكّد بما لا يقبل ادنى شك، انّ المقاربة الدولية للملف الرئاسي لم تتبدّل عمّا كانت عليه قبل عشرة اشهر، ولم تتسم بعد بالجدّية الحقيقية والفعلية، التي من شأنها ان تؤسس لنقلة نوعية في الملف الرئاسي في الاتجاه الذي يُسرّع في انتخاب رئيس للجمهورية وإعادة انتظام الحياة السياسية في لبنان. وضمن هذا السياق، جاء اجتماع «خماسية الدوحة»، ليؤكّد أنّ هذه «الخماسية» برغم «الهالة» التي احاطت نفسها بها، لا تملك مشروعاً لحلّ لبناني، او حتى عناوين عريضة لمسودة خطة عملية لبلورة انفراج على الخط الرئاسي. وبالتالي بدل ان تتقدّم بهذا الملف إلى الأمام، أعادته خطوات الى الوراء.
هل سيعود لودريان؟
تبعاً لذلك، فإنّ أقصى ما نتج من «خماسية الدوحة» هو استهلاك للوقت لا أكثر، والمراوحة في مربّع حراكها من بعيد، وإلقاء كرة الحسم الرئاسي في الملعب اللبناني، ما يؤكّد بما لا يرقى اليه الشك انّ اجتماعها كان فاشلاً بكلّ المعايير، وهذا الفشل يلقي على سطح المشهد اللبناني السؤال التالي: تحت ايّ عنوان ستندرج مهمّة لودريان، إن حضر الى بيروت في الموعد المحدّد في الرابع والعشرين من الشهر الجاري؟ وهل انّ الموفد الرئاسي الفرنسي سيحضر الى بيروت في زيارة جديدة، ام انّه سيعدّل برنامجه ويؤجّل هذه الزيارة او يلغيها؟
مصادر متابعة لمهمّة لودريان تقول لـ«الجمهورية»، إن «لا شيء مؤكّداً حتى الآن، فالموفد الفرنسي يفترض ان يعود الى بيروت في 24 تموز الجاري، (اي بعد يومين)، ولا نستطيع ان نؤكّد انّ هذا الموعد ثابت، ذلك انّ لودريان عدّل برنامجه بعد مشاركته في اجتماع الخماسية، الذي لم يكن أعضاؤها على قرار وموقف واحد من الملف الرئاسي، وقررّ ان يقوم بجولة اتصالات مباشرة مع كلّ طرف من اطراف الخماسية على حدة، لعلّه يتمكن من بناء ما سمّاه تصوّراً لحل ما، يأتي به الى لبنان، وخصوصاً انّ الحوار اللبناني حول رئاسة الجمهورية، الذي قال انّه سيطلقه في زيارته الثانية، بات فكرة ضعيفة جداً، لعدم جدواه بين أطراف حسمت مواقفها سلفاً برفض الحوار وعدم التوافق».
أيّ حوار منتظر؟
وفي الموضوع نفسه، قالت مصادر سياسية لـ«الجمهورية»: «قبل السؤال عن اطلاق الحوار، ينبغي السؤال عمّن يريد الحوار الآن، بالتأكيد أن لا احد يريده، لا ثنائياً ولا جامعاً، اوّلاً لعقم السياسة في لبنان، وثانياً لأنّه لن يؤدي إلى أيّ نتيجة، وبالتالي فكرة الحوار ساقطة سلفاً، وتبعاً لذلك من المستبعد ان يكون لودريان قادراً على اطلاق او إنضاح حوار لبناني، ليست العقدة فقط انّ الداخل اللبناني متهرّب من هذا الحوار، بل انّ «الخماسية» نفسها لا يبدو انّها مشجعة لهذا الحوار او متحمّسة له، والدليل واضح للعيان في بيانها الاخير الذي لم يلحظ اي اشارة من قريب او بعيد الى هذا الحوار».
في هذه الحالة يبرز السؤال التالي: على ايّ أساس ستقوم مهمّة لودريان في زيارته الثانية؟ تجيب المصادر السياسية عينها: «الموفد الرئاسي الفرنسي مكلّف بمهمّة ايجاد مخرج للاستحقاق الرئاسي في لبنان، وإن حضر في زيارة ثانية الى بيروت، فجعبته قد تكون خالية من اي طروحات من شأنها ان تؤدي الى اختراقات نوعية في جدار الأزمة، وتبعاً لذلك فإّن هذه الزيارة قد لا تكون اكثر من زيارة إثبات وجود، للتأكيد على انّ فرنسا مستمرة في السعي الى حل في لبنان لا أكثر ولا أقل، وبالتالي حصول هذه الزيارة او عدمه واحد لا يبدّل في الواقع اللبناني شيئاً».
أين تكمن العقدة؟
تؤكّد مصادر واسعة الاطلاع لـ«الجمهورية»، انّ مكمن العقدة الرئاسية هو نفسه منذ ما قبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، الأولى في الداخل يعبّر عنها الانقسام الحاد بين المكونات السياسية، الذي يستحيل معه التوافق على رئيس للجمهورية، والثانية في الخارج، وتتبدّى في مقاربات مختلفة، وخصوصاً بين دول «الخماسية»، حيث تتوزّع هذه المقاربات كما يلي:
اولاً، الولايات المتحدة الاميركية، قلباً وقالباً مع وصول قائد الجيش العماد جوزف عون إلى رئاسة الجمهورية، ويدعون إلى إتمام ذلك بصورة عاجلة، إلّا انّهم لا يقومون بأي خطوات عملية او دافعة في هذا الاتجاه.
ثانياً، القطريّون يشدّون بصورة علنيّة في اتجاه قائد الجيش، ويتناغمون في ذلك مع الأميركيين والمصريين، ويعتبرون انّ اي مسعى للحل، ينبغي ان يصبّ في هذا الهدف.
ثالثاً، المصريّون، منحازون من الأساس الى قائد الجيش، ولديهم مقولة تفيد بأنّ في الحلبة الرئاسية مرشحين جدّيين هما سليمان فرنجية والعماد جوزف عون. ومهمّة السياسيين في لبنان ان يتوافقوا على اي منهما، او بمعنى أدق على الشخصية التي تتمتع بالمستوى الأدنى من المعارضة المسيحية عليها، فإن تمكنوا من التوافق على فرنجية فليكن، وإن لم يتمكنوا من ذلك فقائد الجيش هو الخيار الموجود. وينطلق المصريون في هذا الطرح ما يعتبرونها صعوبة التوافق الداخلي على فرنجية.
رابعاً، السعوديون منخرطون في العنوان العريض للحراك الدولي الذي يؤكّد على إتمام الاستحقاقات الدستورية في لبنان بصورة عاجلة، انما في ما خصّ الترشيحات، فهو منكفئ الى الخطوظ الخلفية، بحيث انّه لا يتبنّى ترشيح أحد، ويبدو انّ هذا هو الخيار النهائي للمملكة العربية السعودية، بانّها ملتزمة بما اعلنته بأن لا فيتو على اي من الاسماء المطروحة لرئاسة الجمهورية، كما انّها لا تفاضل اسماً على آخر، ومن هنا فإنّ المملكة تماشي الاستعجال في اجراء الانتخابات الرئاسية، واما في مجال الأسماء فهي تكتفي بالاستماع للجميع، من دون ان تكون لها شراكة في اي منهم.
خامساً، الفرنسيون، مع خماسية او من دون خماسية، فهم ماضون في مساعيهم حتى بلوغ نقطة انفراج في الملف اللبناني، ولا يبدو انّهم في وارد الانكفاء عن الملف اللبناني، الذي كثفوا فيه حضورهم منذ ما بعد انفجار مرفأ بيروت، ثم انّهم ما كانوا ليطرحوا «معادلة رئيس جمهورية مقابل رئيس حكومة»، كعنوان للدعم الفرنسي لوصول فرنجية الى رئاسة الجمهورية، لو لم يحصلوا على موافقة مسبقة عليها من اللجنة الخماسية. الاّ انّ نقطة الضعف في هذه المعادلة تكمن في انّ باريس لم تتمكن من تسويقها في الداخل اللبناني. وهو الامر الذي شكّل ذريعة لبعض دول الخماسية بالتراجع عن موافقتها على تلك المعادلة. ولكن الفرنسيين، حتى الآن، والكلام للمصادر الواسعة الاطلاع، لم يطووا تلك المعادلة، كما لم يخرجوا من دعمهم لفرنجية، بل هم لا يزالون يعتبرون انّ هذه المعادلة هي الخيار الافضل لحلّ الأزمة الرئاسية في لبنان».
كيف نزيد أصواته؟
وبحسب معلومات موثوقة لـ«الجمهورية»، فإنّ زيارة لودريان السابقة التي تلت جلسة الفشل الثاني عشر في انتخاب رئيس للجمهورية، عكست في بعض لقاءاته الوقائع التالية:
اوّلاً، شعوراً بالإحباط الفرنسي من النتيجة التي انتهت اليها الجلسة، حيث انّ حصول فرنجية على 51 صوتاً مقابل 59 صوتاً لجهاد أزعور، هي نسبة قليلة جداً، تصعب على باريس تسويق ما كانت بصدد تسويقه قبل تلك الجلسة، اي موافقة الأطراف اللبنانيين على «معادلة رئيس جمهورية مقابل رئيس الحكومة».
ثانياً، انّ باريس تدعم وصول فرنجية الى رئاسة الجمهورية ولكن كيف سنزيد اصواته؟
ثالثاً، الجواب الذي أُبدي حيال هذا الإحباط، حمل ما مفاده اننا نتفهم هذا الاحباط، ولكن لا نرى موجباً له، انتم تقاربون الانتخابات التي جرت في جلسة مجلس النواب الثانية عشرة، من منطلق الديموقراطية التي تعتمدونها في فرنسا، أي ديموقراطية الأقلية والأكثرية، ولذلك نحن مدركون انّ الارقام تعني لكم في ترجمة هذه الديموقراطية، ولكن الامر مختلف هنا في لبنان، حيث انّ ديموقراطيتنا ليست ديموقراطية أكثرية وأقلية، بل هي ديموقراطية توافقية، وبمعنى أدق ديموقراطية توافق طوائف أقوى من لغة الارقام، وهذا التوافق على أساسه تُحتسب النسب، حيث انّه يمكن ان نصل الى نتيجة 1+1= 2، او 1+1= 11. ولذلك انّ ما صدر من نتائج في جلسات الانتخاب كلها لا معنى له، ولا يُبنى عليه. وهذه النتائج التي حصلت، وهذه الاصوات التي نالها هذا او ذاك من المرشحين، مرشحة لأن تنتقل من ضفة الى ضفة اذا ما استدعت الديموقراطية التوافقية ذلك».
ماذا عن العقوبات؟
وإذا كانت بعض القراءات الداخلية، قد اقتطفت من بيان خماسية الدوحة، الفقرة التي تشير الى «انّ الدول الخمس ناقشت في اجتماعها الاثنين الماضي خيارات محدّدة في ما يتعلق باتخاذ إجراءات ضدّ أولئك الذين يعرقلون إحراز تقدّم»، وبناءً على هذه الفقرة تبرّعت بعض المنابر السياسية والاعلامية في تحديد وتسمية المرشحين للعقوبات. الّا انّ مرجعاً سياسياً أبلغ الى «الجمهورية» قوله: «المنطق الفوقي مرفوض كلّياً اياً كان مصدره، ومنطق العقوبات لا يخدم الحل، بل يصعّبه اكثر، ويدفع الاطراف المعنية الى التصلّب في مواقفها اكثر. وبمعنى اوضح، انّ خيار العقوبات إن لجأوا اليه، معناه انّهم قرّروا ان يخربوا لبنان، وهذا ما نخشى منه، وخصوصاً انّ مسلسل العقوبات قد بدأ مع القرار الاوروبي بتوطين النازحين السوريين في لبنان، وعرقلة عودتهم الى بلادهم».