IMLebanon

كان “مُستمعاً”: لودريان يتحول “مُتحدثاً” فمن يصغي إليه؟

كتب جورج شاهين في “الجمهورية”: 

ليس من المستحسن التوسّع في ترداد السيناريوهات التي أُغرِقت الساحة اللبنانية بها عشيّة عودة الموفد الرئاسي جان ايف لودريان الى بيروت اليوم، فمعظمها يستند إلى رغبات وأمنيات في ظل فقدان المعطيات الدقيقة التي تنتظر ما يحمله. فبعدما كان «مُستمعاً» في زيارته الأولى يفترض أن يتحول في الثانية «متحدثاً»، وهو ما أدى الى طرح الاسئلة حول حجم التجاوب معه، إن بقيت المواقف ثابتة على حالها في انتظار الجديد الذي لم ينتجه بعد؟

على هذه القاعدة ينصح ديبلوماسيون ومراقبون محايدون لم ينخرطوا في المواجهة المفتوحة بين تشكيلات محور الممانعة من جهة والمعارضة من جهة أخرى وما بينهما مجموعة صغيرة من الرماديين الذين قرروا ان يبقوا في موقع بين «شاقوفين». وهم حريصون على التريّث في الحكم على ما ستشهده الزيارة الثانية للموفد الرئاسي الشخصي الفرنسي بعد ان تحط قدماه في بيروت. فهو وفي المبدأ أعطى لنفسه مهلة محددة لن يتجاوزها في بيروت ولن تدوم اكثر من يومين. ذلك أنه مضطر للعودة الى بلاده لما لديه من مواعيد تبدأ مساء الخميس. ولذلك على من ينظمون مواعيده رصدها في هذا الاطار ليكون معظمها في قصر الصنوبر بعدما اختصرت الجولات الميدانية الى الحد الادنى للقاء معظم مَن شملتهم جولته الاولى، وان الغي البعض منها فلأسباب تُحتّمها ظروف مختلفة.

وبعيدا عن الأجواء التي حكمت زيارة لودريان الأولى وما انتهت اليه، تبين له ولأركان الإدارة الفرنسية انّ المعادلات السابقة قد سقطت وأن مرحلة جديدة لا بد ان تبدأ، وهو ما عززته الاجواء التي رافقت لقاء الدوحة الخماسي وما سبقه وتلاه من لقاءات أجراها لودريان في قطر قبل ان يستكملها في جدة. فهو يعرف ان المعادلة التي حاول البعض رسمها للمأزق الرئاسي لا يمكن ان تُبنى على نتائج جلسة 14 حزيران التي شكلت الحلقة الثانية عشرة من مسلسل انتخاب الرئيس. وان «الهندسة النيابية» التي خلصت إليها لم تكن واقعية بفِعل الضغوط التي مورِست في الخفاء قبل العلن وحالت دون تظهير الأحجام الحقيقة في حال انعقدت في ظروف طبيعية والانتقال من الجلسة الاولى الى الدورات المتتالية حتى انتخاب الرئيس.

فمجموعة الضغوط والتهديدات التي سبقت ورافقت انعقادها لم تظهر كاملة على سطح الأحداث، فما تبلّغته المراجع الديبلوماسية الإقليمية والدولية منها لم يكشف كاملاً بعد. وإن مَن تَكتّم عليها قدّم ضمان المصلحة العليا وأولوية حماية الساحة الداخلية من خضات امنية وسياسية كبرى كانت على الأبواب. ولم يكن الوضع في لبنان قادرا على استيعابها بفعل ما تسببت به الازمات المالية والنقدية من انهيار مُحتمل في ما تبقى من مؤسسات. وهي عوامل كانت كافية لتأجيل استحقاق انتخاب الرئيس في ظل الظروف الحالية قبل التفكير بالعبور الى المراحل الطبيعية المؤدية الى اكتمال عقد السلطات الدستورية بما فيها تشكيل حكومة جديدة والانطلاق بخطط التعافي والانقاذ.

على خلفية هذه المعطيات التي بقيت في الكواليس والغرف المقفلة، والتي تم التداول بها في البرقيات السرية بين العواصم المعنية بالوضع اللبناني، كان لا بد من البحث عمّا يغلف ما لا يمكن البوح به بغطاء داخلي. ولهذه الغاية اختيرت احدى الكتل النيابية الحديثة الولادة ومعها اصوات بعض النواب التغييريين والمستقلّين لتشتيت الأصوات بالطريقة التي انتهت إليها. وبذلك يكون هؤلاء قد نفّذوا المهمة بعلمهم جميعاً او البعض منهم او من دون ذلك، فكانت «الهندسة الدقيقة» التي استثمَرت في نظرية قالت بما لا يرقى اليه أي شك، بأنّ أيّاً من الفريقين الكبيرين ليس قادرا على ايصال مرشحه الى قصر بعبدا. وهي معادلة تم ضمّها الى نظرية فقدان «الميثاقية» التي لا تسمح بفوز اي من المرشحين.

وانطلاقاً مما تقدم، فقد حضرت كل هذه المعطيات على أكثر من طاولة ديبلوماسية وتم نقلها الى باريس ومنها الى عواصم الدول الخمس المتمثّلة في ما سُمّي «لقاء باريس الخماسي»، قبل ان تُسارع هذه القوى الى ترتيب «لقاء الدوحة» لإخراج المبادرة الفرنسية من المأزق الذي بلغته والبحث عن الصيغة البديلة التي سيحملها لودريان إلى بيروت في الساعات المقبلة. بما فيها الأسباب الموجبة التي ستسمح له بتبرير الانعطافة الفرنسية مدعومة بتوافق الأطراف كافة، خصوصاً انّ الحراك الفرنسي لن يكون يتيماً فقد انضَمّت إليه كل من المملكة العربية السعودية وقطر بقوة لِتولي تنفيذ الجزء المكمل والمحفّز لها.

وعليه، يجب ان تتوجه الانظار الى الحركة المرتقبة على خط الدوحة ـ طهران بعدما ارتفع مستوى التخاطب بين العاصمتين توصّلاً الى عقد قمة ايرانية ـ قطرية محتملة في الأيام المقبلة، والتي سيحضر ملف لبنان بقوة على جدول أعمالها بما سيكون حاسماً بوجود النية في الاسراع بالاستحقاق قبل ان تتفاقم الامور على الساحة الداخلية بفِعل الأوضاع النقدية والمالية الصعبة التي يمكن ان تَنجم من التغيير المُرتقَب في حاكمية مصرف لبنان، وكذلك بالنسبة الى الوضع في المؤسسات العسكرية والامنية ان تأخرت المعالجات الجارية الى حين الشغور في قيادة الجيش. ذلك انّ المعنيين بالملف الامني الذين يدعمون هذه المؤسسات والاجهزة بدأوا بِتلمّس المخاطر المترتبة على اي خلل مُحتمل على مستوى القيادة ونتائجه قد لا تكون قابلة للمعالجة ان تطورت الامور في الاتجاه السلبي، فتتقدم خطورة المرتقَب منه على ما بلغه الشلل في الوزارات والإدارات المدنية والقطاعات الخدماتية.

وقياساً على ما تقدم من المعطيات، فإنه من المتوقع ان تنطلق موجات التشكيك بالمخارج الاقليمية والدولية المقترحة بعدما تغيرت الاستراتيجية الفرنسية. والتي وإن استقطب جديدها الرافضين السابقين لها، فستضع المؤيدين السابقين لها في المقلب الآخر في معادلة جديدة أكثر تعقيداً من تلك التي كانت قائمة قبل «لقاء الدوحة»ن وهو ما يعيد التوتر الى الساحة الداخلية بوتيرة اعلى. فإلى التهديد بالعقوبات التي يمكن ان تطاول أقطاباً «يَعوقون عملية الانتخاب»، فإنّ إلغاء الدعوة الى طاولة حوار مستعجلة وتأجيلها الى ما بعد انتخاب الرئيس لن تكون فكرة مقبولة عند فريق يطالِب بها ليُشارك في الدورات المتتالية لانتخاب الرئيس ما لم يجر تطويقها بالاتصالات الخارجية التي تفتح الباب بحثاً عن شخصية بمواصفات تقوده الى قصر بعبدا.

وختاماً، لا بد من لفت النظر الى الاجواء التي تتحدث عن مهمة صعبة ومعقدة للودريان يبتعد فيها عن أسلوب الاستماع وتسجيل الملاحظات الذي مَيّز زيارته الاولى، لتتفاعل الساحة الداخلية مع مقترحات جديدة لم تكتمل التوافقات حولها. وعليه، طُرحت الاسئلة: من سيستمع إلى ما يحمله لودريان؟ ومن يستجيب له للبحث في معادلة جديدة قبل توفير الخارج للتفاهم المفقود والقدرة على ترجمته داخلياً؟ وكل ذلك من أجل أن يَنقاد الجميع الى انتخاب «مستر إكس» الذي سيتعرّف اليه اللبنانيون في حينه.