كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
فرصة الشهرين أو الثلاثة التي منحتها اللجنة الخماسية لفرنسا، كي تُنجز تسوية في لبنان، تبدو أقرب إلى القصاص لـ«فاعل الخير»، جان إيف لودريان. فالجميع يعرفون أنّ التسوية شبه مستحيلة خلال هذه الفترة. وأول العارفين قطبا الصراع الأساسيان: واشنطن وطهران.جاءت جولة لودريان الثانية في بيروت باهتة إلى حدّ بعيد، خلافاً للجولة الأولى التي راهن البعض على أنّها ربما تنجح في إحداث خرق.
الرجل لا يحمل مشروعاً جاهزاً. وهو جاء أولاً لأنّ اللجنة الخماسية حمّلته في الدوحة «أمانة» البحث عن تسوية في لبنان تحافظ على الحدّ الأدنى من استقراره السياسي والمالي والأمني، وثانياً لأنّ باريس لا تريد أن تعلن في أي يوم فشل مبادرتها اللبنانية، حتى وإن فشلت على أرض الواقع.
ويقول سياسي لبناني خبير في الشأن الفرنسي، إنّ لودريان يعتبر المهمّة المكلّف بها في لبنان تحدّياً مهنياً له. فهو الديبلوماسي الأكثر خبرة في الإدارة الفرنسية الحالية، وهو يمثل الرئيس إيمانويل ماكرون شخصياً في هذه المهمّة، ولذلك هو يتجنّب الوصول إلى نقطة يضطر فيها إلى إعلان الفشل. والأفضل أن تتحلّى باريس بالنَفَس الطويل، لأنّ التسوية ستحصل ذات يوم ولو تأخّرت شهوراً أو حتى أعواماً.
وعلى المستوى الشخصي، يتولّى لودريان مهمّة رفيعة في مشاريع التطوير السعودية التي أطلقها ولي العهد محمد بن سلمان، وليس مناسباً لصورته كديبلوماسي ووسيط أن يَتعثّر في مهمّته اللبنانية ويبدو عاجزاً عن ابتكار تسوية.
عمق المشكلة هو أنّ فرنسا لا «تمون» على أي طرف لبناني، ولا على أي طرف إقليمي أو دولي فاعل، لا طهران ولا واشنطن ولا حتى الرياض. ولذلك، سيتعب لودريان في نقاشاته المريرة مع القوى السياسية في بيروت.
وعملياً، إذا توافَق أركان اللجنة الخماسية جميعاً على صيغة تسوية في لبنان، فإنّها ستبقى حبراً على ورق، لأنّ صاحب القرار الأساسي في لبنان هو إيران. ونجاح التسوية يقتضي حصول توافق بين أركان اللجنة الخماسية جميعاً وإيران. وهذا الأمر يبدو مؤجّلاً إلى موعد غير محدّد.
وثمة اعتقاد بأنّ إيران لا تستعجل التوصل إلى تسوية في لبنان، إذ تريدها جزءاً من مقايضة كبرى مع القوى الدولية، ومع الولايات المتحدة تحديداً. ويتردّد في بعض الأوساط أنّ إيران ليست قلقة من الفراغ في موقع الرئاسة، كما هم أركان الخماسية الخائفون من فوضى في لبنان.
وعلى العكس، إيران مطمئنة إلى الوضع اللبناني ما دام «حزب الله» يمسك بالقرار على مختلف المستويات. بل هي تسعى إلى استثمار فترة الشغور الرئاسي للضغط سياسياً على خصومها الإقليميين والدوليين، بمقايضتهم في الكثير من الملفات، ما يحقّق لها مكاسب إضافية على الساحة اللبنانية.
لقد تمكنت إيران من إجبار الجميع على محاورتها باعتبارها صاحبة القرار الأساسي في لبنان. وأبرز الأمثلة أنّ القوى الشيعية، حليفة إيران، هي التي فاوضت الولايات المتحدة في مسألة ترسيم الحدود مع إسرائيل، وهي التي منحت الدولة اللبنانية ضوءاً أخضر للتوقيع في نهاية عهد الرئيس ميشال عون. وإذا تمّ التنقيب عن الغاز في الأشهر المقبلة، كما هو مقرّر مبدئياً، ستكون للقوى الشيعية حصّة الأسد في البازار، وستكون هذه الحصّة مضمونة قبل سنوات من بدء الاستخراج.
في الموازاة، من المثير أنّ الولايات المتحدة من جهتها ليست مستعجلة في لبنان. وفي الأساس، لا تقوم استراتيجية الرئيس جو بايدن الشرق أوسطية على معاداة إيران بل على إنجاز تفاهم معها، يبدأ بالملف النووي ويتسع ليشمل نفوذها الإقليمي. ويعتقد محللون أنّ واشنطن كانت متحمسة لتوقيع الاتفاق مع طهران، لولا بعض الفجوات العالقة وانفجار الحرب في أوكرانيا والتصعيد المبالغ فيه الذي عمدت إليه إسرائيل، في مسعاها إلى منع استكمال الصفقة.
ولذلك، إنّ إطالة فترة الفراغ في موقع الرئاسة يزيد مكاسب القوى الشيعية ويدعم نفوذها. وللتذكير، عندما شغر مقعد الرئاسة نحو عامين ونصف العام، بين 2014 و2016، استتب الأمر لـ»حزب الله» في شكل متنامٍ، حتى أتى بحليفه عون إلى الرئاسة.
ويعتقد البعض أنّ إيران وحلفاءها قادرون خلال هذه الفترة على اقتناص الفرصة وفرض المؤتمر التأسيسي من باب الحوار، فيكرّسوا المكاسب المحققة حالياً على الأرض داخل الدستور والمؤسسات. لكن آخرين يعتقدون أنّ في إمكان حلفاء إيران أن يفرضوا أمراً واقعاً يحقق لهم ما يريدون من المكاسب، من دون عناء المؤتمر التأسيسي.
إذاً، في لحظة معينة، سيتفق الأميركيون والإيرانيون في لبنان، في سياق مقايضة كبرى أو باتفاق موضعي في لبنان، فيلحق بهم الآخرون في اللجنة الخماسية ويهرعون إلى حجز ما أمكن من الحصص في هذه التسوية، وبين هؤلاء فرنسا.
وفي الانتظار، سيهرول لودريان منهكاً في حرارة دهاليز السياسة اللبنانية، ولكن بلا جدوى، لأنّ هذه الدهاليز مفتوحة على مواقع النفوذ الكبرى، إقليمياً ودولياً، وتحديداً إيران والولايات المتحدة. والقرار هناك وليس هنا.