كتبت باسكال مزهرفي “نداء الوطن”:
تشكّل الثروة البترولية، أملاً كبيراً للشعب اللّبناني في تحقيق النهوض الاقتصادي والتنمية المستدامة والمتوازنة، ما يؤسّس لبناء اقتصاد قوي يعتمد على تطوير القطاعات الإنتاجيّة لا سيّما قطاعي الزراعة والصناعة (ومن بينها الصناعات البتروكيميائيّة)، وخلق فرص عمل كبيرة عبر تنمية المشاريع الإستثماريّة فضلاً عن الحدّ من العجز المالي وتراكم الدين العام. طبعاً في حال تمّت إدارتها بالشكل السليم والمناسب، ستكون لهذه الثروة انعكاسات مباشرة على مختلف القطاعات الإنتاجية في لبنان.
القطاع الزراعي
في هذا المجال، لا بدّ من الإستفادة إلى حدّ كبير من استثمار الموارد البترولية وذلك من أجل تطوير القطاع الزراعي، الذي يشهد تراجعاً كبيراً وإهمالاً أكبر من قبل الدولة الغائبة عن الإستثمار في هذا القطاع الذي يشكّل أحد الأعمدة الأساسيّة لأي اقتصاد منتج. بحيث يمكن الإستفادة من الأرباح الماليّة التي سوف تنتج عن استغلال هذه الموارد وتوظيفها في استثمارات مختلفة.
وذلك من خلال إقامة مشاريع زراعيّة كبيرة على المستوى الوطني تساهم في تنمية وتشجيع التنوّع في المزروعات كما وتساهم في خلق فرص عمل كبيرة، خاصّة أن لبنان يمتاز بمناخ معتدل وبتربة خصبة صالحة وملائمة للعديد من الزراعات المتنوّعة، ما يساهم في تنوّع الإنتاج في ميادين عدّة يمكن تطويرها نظراً لما تؤمّنه من مردود مالي كبير. على أن يُقابل ذلك بسياسة حمائيّة من قبل السلطات المختصة لحماية المنتجات الزراعيّة اللبنانيّة من المضاربة الأجنبيّة.
مع ضرورة أن يترافق ذلك مع قيام الدولة بعمليّة التسويق اللازم للمنتجات اللبنانيّة في الخارج وتصديرها إلى الأسواق الإقليميّة والدوليّة، وذلك عبر شبكها لأفضل علاقات التعاون والمشاريع المشتركة مع الدول المجاورة وتلك البعيدة ذات الأسواق الكبيرة. وعلى وجه الخصوص التواصل مع الدول التي تضمّ نسبة كبيرة من المغتربين اللبنانيين والذين يمكن استغلالهم لدعم الزراعة الوطنيّة ودعم الإنتاج اللبناني في بلدان الإغتراب.
من جهة أخرى، يمكن الاستفادة مباشرة من الثروة البترولية، من خلال منتجاتها النفطيّة من الأسمدة الزراعيّة وذلك عبر إنشاء مصانع لهذه الأسمدة لمعالجتها وتحضيرها للإستعمال الداخلي في القطاع الزراعي. بحيث يُعتبر النفط المادّة الأساسيّة لإنتاج هذه الأسمدة التي تستعمل كثيراً في مختلف الزراعات المحليّة، وهذا الأمر من شأنه أن يؤمّن العديد من فرص العمل الثابتة.
القطاع الصناعي
عندما نتكلّم على الطاقة نتحدث عن الصناعة، والسؤال الأساسي الذي يُطرح في هذا المجال هو التالي: هل سيدخل النفط كصناعة أم يبقى مجرّد استخراج؟ من هنا تظهر ضرورة ربط الموارد البتروليّة بالصناعة الوطنيّة، من خلال إنشاء صناعات بتروكيميائيّة والتي تعني دمج النفط وإدخاله كمحرّك لكافّة الصناعات لكي يتم الإنتقال من النظام الريعي إلى النظام الإنتاجي. إن أهمّ ما تشمله هذه الصناعة يكمن في مصانع البلاستيك ومصانع الألومنيوم، إذ يُعتبر تطوير الصناعات البتروكيميائيّة من الاستثمارات الطويلة الأجل بحيث تكمن أهميتها في خلق آلاف فرص العمل الدائمة. إذ يصل عدد المنتجات والسلع التي يتطلّب تصنيعها توافر مادّة النفط، إلى أكثر من 300 ألف نوع.
إن أهمّ المعوقات التي تواجه القطاع الصناعي تتمثّل بارتفاع كلفة الإنتاج الناتجة بدورها عن ارتفاع كلفة الطاقة، فهذا أحد أبرز المبرّرات حول ارتفاع كلفة الإنتاج في لبنان. إذ إن عمليّة استخراج النفط والغاز في المستقبل، من شأنها تأمين الطلب المحلّي من مصادر الطاقة المختصّة بالمصانع والمعامل والمنشآت الصناعيّة، فلبنان يستورد المشتقات النفطيّة بأسعار مرتفعة تنعكس بالتالي على كلفة الإنتاج الصناعي في البلد.
وفي ما يختص بالاستعاضة عن استيراد المنتجات البتروليّة في لبنان، وبالنسبة إلى تلبية الإحتياجات المحليّة من الغاز الطبيعي سيساهم هذا الأمر بشكل فعّال في تخفيض التكاليف التي تدفعها الدولة من أجل تأمين الطاقة خاصّة في القطاع الصناعي ما يمنح السلع اللبنانيّة عنصر المنافسة. كما ويسهّل استثمار صناعات الطاقة المكثفة التي تشكّل الركن الأساسي للتطوّر الصناعي لجهة استحداث صناعات تحويليّة عديدة لتأمين المواد الأوليّة والوسيطة محلياً.
إذ يتناول إنتاج الغاز الطبيعي المسال مادّة الـ»Méthane» ومادتي الـ»Propane» والـ»Butane» اللتين تُستخدمان في محطات إنتاج الطاقة، فضلاً عن الـ»Ethylène» اللازم لصناعة البلاستيك الذي تبلغ كلفة إنتاجه في البلاد غير المنتجة للنفط خمسة أضعاف كلفة البلاد المنتجة للنفط. وفي هذا المجال، لا بدّ أن يترافق ذلك مع تفعيل دور وزارة الصناعة في مواكبة الصناعات البتروكيميائيّة التي تنشأ بفعل الاستغلال الصناعي للموارد البتروليّة والتي لها مردود اقتصادي ومالي أفضل. وهذا من شأنه تخفيف كلفة الإنتاج في ما خصّ السلع والمنتجات اللبنانيّة وبالتالي تحفيز القطاع الصناعي وخلق حركة اقتصاديّة تنعش الركود الحاصل منذ سنوات.
وذلك من خلال تشجيع الاستهلاك المحلّي والخارجي للصناعات اللبنانيّة، كما ومن خلال تطوير مهارات القطاع الصناعي وتمكينه من مواكبة قطاع النفط والغاز لجهة تقديم الخدمات والسلع المحليّة الداعمة للأنشطة البتروليّة فضلاً عن تأمين البنية التحتيّة اللازمة.
القطاع التجاري
تساهم عمليّة إنتاج النفط والغاز في تنشيط عمليات التبادل التجاري للبنان مع الخارج على مختلف الأصعدة والمجالات. بحيث تشكّل المنتجات الهيدروكاربونية إحدى السلع الأساسيّة للتبادل التجاري لما لها من دور فعّال ومؤثّر في تطوير هذه العمليّة على المستويين الإقليمي والدولي. خصوصاً أن الطلب العالمي على المواد البترولية يشهد ارتفاعاً مستمرّاً بحسب توقّعات منظمة الدول المصدرة للنفط «أوبك»، بحيث سجّلت توقّعاتها في هذا المجال ارتفاعاً بقيمة 113 مليون برميل يومياً بحلول العام 2030.
في ما يتعلّق بلبنان، تتصدّر المشتقات البترولية لائحة الواردات اللبنانيّة، فهذه الفاتورة في ارتفاع مستمرّ. أمّا من شأن استثمار الثروة النفطيّة والغازيّة الموجودة في البحر اللّبناني، أن يساهم في تخفيف الفاتورة الطاقويّة للدولة اللبنانيّة من جهة، كما وتأمين إيرادات ماليّة كبيرة نتيجة لتصدير الفائض من المنتجات البتروليّة من جهة أخرى. لاسيّما في ما خص الغاز الطبيعي، بحيث تشهد السوق الدوليّة طلباً متزايداً على الغاز نظراً لمنافعه الكثيرة وأسعاره المقبولة بالنسبة إلى باقي المشتقات البتروليّة، مع الإشارة إلى أن الترجيحات تشير إلى أن أغلب ثروة لبنان تتكوّن من الغاز الطبيعي.
وبالتالي، فمن شأن هذا الأمر تنشيط التبادل التجاري بين لبنان والأسواق الخارجيّة التي هي بحاجة إلى هذا الغاز لا سيّما السوق الأوروبيّة والأسواق الآسيويّة الصاعدة. خاصّة في حال شارك في مشاريع وتحالفات طاقويّة، ما يؤسّس لتعاون اقتصادي ولشبك أفضل العلاقات التجاريّة التي من شأنها إعادة لبنان إلى خارطة التجارة الدوليّة، وبالتالي تحوّله إلى لاعب أساسي ومحوري في منطقة شرقي المتوسط.
قطاع التعليم والبحث العلمي
سيساهم قطاع النفط والغاز وبشكل كبير في تطوير قطاع التعليم في لبنان. فهل يخدم محتوى المواد التي تُدرّس الصناعة البتروليّة في لبنان؟ وسعياً لتحقيق هذا الهدف لا بدّ من تطوير المهارات المحليّة وتعزيز البحث العلمي: إن على صعيد التوجيه العلمي اللازم في مختلف المجالات الأكاديمية وإعطاء الأهميّة للموارد البشريّة والأولويّة للمكوّن المحلّي من جهة، وإن على صعيد الإختصاصات في الجامعات وتأمين مراكز أبحاث مختصة بالعلوم الجيولوجيّة من جهة أخرى.
في هذا السياق تبرز أهميّة تأهيل وتأمين قطاع أكاديمي مهني متطوّر وشامل قادر على مواكبة جميع أوجه الصناعة البتروليّة في لبنان، نظراً لمساهمة قطاع التعليم البارزة في مواكبة تطوّر هذا القطاع بشكل عام. الأمر الذي يجب أن يحظى باهتمام بارز من قبل الدولة اللبنانيّة، بحيث تغيب السياسات العامّة المنظّمة لجميع القطاعات ومنها قطاع التعليم بكافة مستوياته، في ظل غياب استراتيجيّة واضحة تسترشد بها وزارة التربية والتعليم العالي كما وكافة المؤسسات الأكاديميّة والفنيّة والمهنيّة لمواكبة متطلبات سوق العمل.
إن القطاع البترولي يحتاج إلى ثلاثة مستويات من التخصّص والخبرة، تبدأ مع المهندسين في كافة الإختصاصات وأهمها هندسة البترول، ومن ثم تليها فئة حملة الشهادات الجامعيّة التقنيّة والفنيّة، وتليها في أسفل الهرم الوظيفي الموارد البشريّة العاملة في قطاع البترول من عمّال الحقول الذين لا يحتاج معظمهم إلى شهادات أكاديميّة إنما إلى دورات تخصصيّة ميدانيّة كسائقي الحافلات والآليّات الضخمة.
وتؤكّد مصادر متابعة للملف البترولي في لبنان، أن الركيزة في هذا القطاع تكمن في فئة المتخصّصين من تقنيّين وفنيّين يعملون إلى جانب المهندسين. حيث من المتوقّع أن يستوعب قطاع البترول في مراحله الأولى حوالي 200 مهندس، في حين قد يحتاج كل مهندس بالحد الأدنى إلى سبعة تقنيّين وفنيّين ذوي خبرة علميّة لمواكبته في إنجاز مهامه.
لذلك ومن أجل التخفيف من ظاهرة تنامي البطالة بين الشباب الجامعي، ينبغي العمل على تطوير وتنظيم المعاهد الجامعيّة الفنيّة والتقنيّة بكافة مراحلها، وتوجيهها بشكل سليم نحو حاجات سوق العمل في القطاع البترولي ومختلف الأنشطة المرافقة له. وذلك بالتنسيق مع وزارة التربية وهيئة إدارة قطاع البترول في لبنان، مع العلم أن أغلب الجامعات والمعاهد أصبحت لديها مسارات تتلاءم مع هذا القطاع.
القطاع الصحي
سيساهم تطوير قطاع النفط والغاز بشكل كبير في تنمية القطاع الصحي في لبنان، بحيث ستقوم الشركات البتروليّة العالميّة كما والشركات التي تقدّم الخدمات البتروليّة بصرف مبالغ كبيرة في مجال الصحّة والتأمين على الحياة. إذ يمكن استغلال هذا الأمر في تشييد المستشفيات والمراكز الطبيّة ومرافق الخدمات الصحيّة، الأمر الذي يترك آثاره الإيجابيّة على صعيد إقرار البطاقة الصحيّة المجانيّة وزيادة التقديمات الصحية العامّة والشاملة.
فضلاً عن ذلك، ينتج لبنان كميات كبيرة من انبعاثات الغازات الدفيئة الأمر الذي يؤثر في الوضع الصحي العام في البلد. إذ إن إنتاج الغاز الطبيعي ودمجه في الصناعة الوطنيّة من شأنه أن يخفّف من هذه الإنبعاثات وبالتالي أن يخفّف من الفاتورة البيئيّة التي يسبّبها استخدام الموارد الطاقويّة التقليديّة. أيضاً وفي هذا السياق، فعندما نتحدّث عن موضوع الطاقة فإننا نتحدث عن الطاقة المتجدّدة، بحيث لا بد من الإعتماد على إستراتيجيّة طاقويّة طويلة الأمد تشجّع وتدفع نحو استعمال الطاقة المتجدّدة كالطاقة الشمسيّة وطاقة الرياح والمياه وغيرها من المصادر الصديقة للبيئة، فلبنان غني بتلك الثروات.
في الخلاصة، إن النجاح في إدارة الثروة البترولية في لبنان سوف ينعكس ويؤثر بشكل مباشر على مجمل القطاعات الأخرى، وذلك من خلال خدمة هذه القطاعات والتأثير على نموها كما وعلى عمليات الإستثمار فيها. بحيث أصبح من الضروري أن تأخذ الدولة في الإعتبار مسألة اعتماد سياسة متوازنة بين قطاع البترول والقطاعات الإنتاجيّة في لبنان تساهم في توجيهها الوجهة المطلوبة والمناسبة مع عدم إغفال المسار الطويل والطبيعي من التفاعلات المتبادلة.