كتب منير الربيع في “المدن”:
هوامش كثيرة يمكن تسجيلها على دفاتر النكسات الفلسطينية. وآخرها نكسة مخيم عين الحلوة. من حيث لم يحتسب أحد، انفجر الوضع الأمني في المخيم، بشكل متشعب ومعقد، تتداخل فيه عوامل كثيرة، بعضها يمكن أن يكون مفهوماً وبعضها الآخر يبقى غامضاً، أو عرضة للكثير من التأويل.
انفجار الأزمة، له أكثر من بعد وسبب وهدف، وتدرج في طبقات متتالية، تبدأ من الصراعات الدائمة والمفتوحة على النفوذ في المخيمات، ولا تنتهي بأبعاد سياسية ترتبط بها جهات لبنانية وجهات خارج لبنان. يكفي أن يكون هناك بؤرة مشتعلة، ليكون الاستثمار حاضراً من أجهزة كثيرة.
أبعاد الصراع
لا حاجة للدخول في رواية الصراع على النفوذ داخل المخيمات، فهذه مسألة ثابتة ومزمنة، ولا تستدعي هذا الحجم من الصراع. يأتي الاشتباك في ظل توتر سياسي بين السفارة الفلسطينية في بيروت ومنظمة التحرير من جهة، مع لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني من جهة ثانية. توتر له أسباب كثيرة بينها اتهامات بالفساد، معطوفة على اختلاف في الآراء والتوجهات السياسية، تقابلها اتهامات بمحاولة فرض السيطرة على عمل المنظمة ووجهتها، وتغليب جهة على حساب الجهة الأخرى.
بعد آخر للصراع، وهو مزمن بين حركة فتح من جهة والقوى الإسلامية من جهة أخرى. إذ يشهد مخيم عين الحلوة بين فترة وأخرى عملية اغتيال أو تصفية، سرعان ما يتم تطويقه كي لا ينفجر أكثر. ما أضيف حديثاً، كانت زيارة رئيس جهاز المخابرات التابع للسلطة الفلسطينية ماجد فرج إلى بيروت، وهي زيارة أحيطت بمعلومات وتسريبات كثيرة. بعضها يتصل بصراعات داخلية في حركة فتح، وبعضها الآخر يرتبط بإيصال رسالة واضحة إلى حزب الله بالتوقف عن نقل الأسلحة والدعم للمقاومة الفلسطينية في الداخل الفلسطيني، لأن ذلك يمكن أن يدفع إسرائيل للذهاب إلى حرب. فيما تسريبات أخرى تشير إلى أن الزيارة هدفها ضبط الوضع والخلافات داخل المخيمات وبين الفصائل، مع تطويق الاتساع السياسي والأمني والعسكري لحركتي حماس والجهاد في المخيمات على حساب حركة فتح.
السياسة والعسكر
من اللقاءات التي عقدها ماجد فرج في بيروت، اقتراح يقضي بفصل السياسة عن العسكر في منظمة التحرير وحركة فتح تحديداً. وهو ما يفسره البعض بأنه ردّ على الخلافات بين قيادات فتحاوية والسفير الفلسطيني في لبنان أشرف دبور. علماً أن هذا المشروع عليه اعتراض لدى الكثير من مسؤولي حركة فتح. ولذلك، تطرح علامات استفهام كبيرة حول خلفيات اغتيال العرموشي، المحسوب على مسؤول مالية حركة فتح منذر حمزة، والذي لديه علاقة قوية برئيس المخابرات ماجد فرج. وبعض المعلومات تقول إن العرموشي لديه خلافات كثيرة مع السفير الفلسطيني. وهذه رواية جديدة حول الاستفادة من هذا الصراع لتنفيذ الاغتيال، والذي تتهم حركة فتح به مسؤولين من تنظيمات إرهابية أو متطرفة.
على وقع الاشتباك العنيف والقائم، يبرز توجهان في حركة فتح. الأول، يوافق على مسألة وقف إطلاق النار والمعالجة، فيما من يؤيدون العرموشي يرفضون وقف اطلاق النار، ويصرون على تسليم من قام باغتياله، ويصرون على تحقيق انتصار عسكري في حي الطوارئ، الذي يقع تحت سيطرة عصبة الأنصار وجند الشام وغيرها من التنظيمات المتطرفة والكثير من المطلوبين.
عودة المطلوبين
قبل انفجار الاشتباك، حصلت بعض التطورات الأمنية التي لم تحظ باهتمام، من بينها عودة عدد من المطلوبين إلى داخل المخيم. ما دفع الجيش اللبناني إلى اتخاذ إجراءات أمنية مشددة في محيط المخيم، وكثف عمليات البحث عنهم. أحدهم المدعو عيسى الحمد، والذي تعرض لإطلاق النار ليل السبت حين كان برفقة أبو قتادة. والحمد ينشط في قطاع المقاولات في جبل سيروب أيضاً المطل على مخيمي المية ومية وعين الحلوة. تم إطلاق النار عليه وعلى أبو قتادة بنتيجة عودته. وما اعتبره مطلق النار استفزازاً لحركة فتح وكسر لقرارها السابق القاضي بإبعاده من المخيم. تطور آخر تمثل بورود معلومات عن استعداد بلال البدر للعودة إلى مخيم عين الحلوة. ومعروف أن بدر هو أحد أبرز المطلوبين والمتورطين باشتباكات مع حركة فتح وقوى الأمن الوطني الفلسطيني. بمجرد التواتر بهذه المعلومات، ارتفع منسوب الإستنفار لدى فتح.
تطور ثالث، كان قائماً بالتوازي، وهو مفاوضات خاضتها بعض القوى مع منظمة التحرير الفلسطينية، حول إعادة رئيس تنظيم أنصار الله جمال سليمان إلى مخيم المية ومية. الأمر الذي رفضته فتح والمنظمة والسفارة بشكل قاطع. فكان اقتراح بأن يتم السماح بدخول جمال سليمان إلى مخيم الرشيدية في صور، فرفضت فتح أيضاً، لأن هذا سيؤدي إلى توترات. وقد يكون لذلك انعكاسات تتعلق بإطلاق صواريخ من المخيم باتجاه الأراضي المحتلة. هنا لا بد من الإشارة إلى أن جمال سليمان كان قد غادر مخيم المية ومية في العام 2019 باتجاه سوريا بعد اشتباكات كثيرة وقعت بينه وبين حركة فتح هناك.
مستقبل السلاح
إنها حلقة جديدة من الصراعات بين فصائل فلسطينية وجهات أخرى لبنانية وغير لبنانية عبر التقاتل بين هذه الفصائل. صراعات لها أبعاد متعددة، تتجاوز مسألة الصراع على النفوذ أو بسط السيطرة، وتتخطى كل محاولات إضعاف حركة فتح وتقوية تنظيمات أخرى. تلك الحلقة ستفتح المجال أمام تداعيات كثيرة سياسياً في الداخل والخارج، وستعيد إحياء مشروع نزع السلاح الفلسطيني داخل المخيمات، والذي سيعود ليتطور ويتوسع أكثر في المرحلة المقبلة ويشمل إعادة تجديد النشاط حول المطالبة بتطبيق القرار 1559، على اعتاب التجديد لقوات اليونفيل، وفي ظل كل ما يحكى عن إظهار عملية ترسيم الحدود البرية الجنوبية، وفي ظل البحث عن تسوية سياسية شاملة في لبنان، قد يكون الأمن فيها لاعباً أساسياً في فرض وقائع ومسارات.