كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
لم يقلق «حزب الله» يوماً من جانب جبران باسيل. وأدرك دائماً أنّ «الخلاف» معه قابل للاستيعاب، حتى عندما «تقاطَع» مع قوى المعارضة على «مرشح مشترك» لرئاسة الجمهورية. وفعلاً، دبّت الحرارة من جديد في شرايين العلاقة بين الحليفين القديمين. ويعتقد البعض أنّهما ربما مُقبلان على إحياء نوع من التفاهم.
حتى اللحظة الأخيرة من ولاية الرئيس ميشال عون، كان باسيل يعتبر نفسه الماروني المدلّل، الذي لا يمكن لأحد أن يكون بديلاً منه لدى «حزب الله».
كان منطق باسيل بسيطاً ومقنعاً، وهو الآتي: «التيار» هو المكوّن السياسي الأوسع لدى المسيحيين. ولو نافسته «القوات اللبنانية»، فهي تبقى خصماً سياسياً دائماً لـ«الحزب». لذلك، سيبقى «حزب الله» ملزماً باعتماد «التيار» شريكاً مسيحياً. وهذا يعني تلقائياً أنّه، أي باسيل، والعماد ميشال عون سيظلان دائماً في الموقع المميز لديه. وكما رجّح «الحزب» كفة عون على سليمان فرنجية في معركة انتخابات 2014-2016، فإنّه سيفعل ذلك اليوم أيضاً.
وكان في تقدير باسيل أن لا مصلحة لـ«حزب الله» في أن يأتي بفرنجية رئيساً للجمهورية، إذا كان ذلك سيتسبّب بإثارة إشكال سياسي مع «التيار الوطني الحر»، يستمر على مدى 6 سنوات، خصوصاً أنّ علاقات «الحزب» بكل القوى المسيحية الأخرى متوترة.
تبين أنّ منطق باسيل ليس صائباً لأنّ «حزب الله»، عندما طلب من فرنجية الانسحاب من المعركة لمصلحة عون في العام 2016، تعهّد له بأن يكون هو التالي في بعبدا. ويعتبر «الحزب» أنّ على عون وباسيل أن يتفهما دقّة هذا التعهّد، ويعرفا في المقابل أنّ هناك متسعاً من الوقت أمام باسيل ليصل إلى بعبدا. وأنّ في إمكانه أن ينتظر كما انتظر فرنجية 6 سنوات. كذلك، تبين أنّ رهان «التيار» على أنّه الشريك المسيحي الذي لا يمكن استبداله ليس في محله تماماً. فـ«الحزب» تمسّك بفرنجية على رغم كل شيء.
وبعث باسيل برسالة تحدٍّ إلى «الحزب» ورفع سقف المواجهة، عندما توافق مع قوى المعارضة على دعم «مرشح مشترك» هو جهاد أزعور. ولكن ظهرت له استحالة فوز هذا المرشح بالمقعد، ولو أنّه تفوّق على خصمه فرنجية بالأصوات. كما استنتج باسيل أن لا فرصة متاحة أمامه شخصياً للفوز بالرئاسة، وحتى إشعار آخر، خصوصاً أنّه لن يحظى بدعم قوى المعارضة في أي حال. وتبيّن لباسيل أنّ أفضل ما يمكن تحقيقه في هذه المعركة هو التوافق على مرشح ثالث.
لذلك، بعد جلسة «الانتخاب» الأخيرة، قرّر باسيل إنزال «زِنْدِه» عن الطاولة، ووقف «الكباش» الحاصل بينه وبين «الحزب»، وفكّر في استخدام الطاولة للنقاش والمساومة بدل المنازلة، لعلّ النتيجة تكون أفضل.
الأرجح أنّ اللحظة التي قرّر فيها باسيل مساومة «الحزب» بدلاً من مواجهته كانت الإشارة إلى أنّ الرجل أدرك استحالة أن يكون رئيساً في الظرف الحالي، وارتأى الانتقال إلى مرحلة جديدة هي المقايضة مع «الحزب».
يمتلك باسيل رصيداً له وللرئيس عون، ويمكن استخدامه مقابل السير في الطرح الذي يتقدّم به «الحزب». وفي الواقع، باسيل بات اليوم الأقدر على ترجيح الغالبية في المجلس النيابي لانتخاب رئيس للجمهورية، إضافة إلى تأمين التغطية الميثاقية من الجانب المسيحي، وهذه ورقة ثمينة جداً.
ويمكن أن يتقاضى باسيل أثماناً سياسية وغير سياسية في مقابل التوافق مع «الحزب». فالمرحلة المقبلة يُفترض أن تكون دسمة على مستويات كثيرة، خصوصاً في قطاع الطاقة والتنقيب عن الغاز واستخراجه. وثمة حكاية غرام طويلة بين باسيل وقطاع الطاقة امتدت على مدى عهد عون، وقلائل يدركون أسرارها.
والمثير هو أنّ باسيل طرح عناوين «وطنية» مقابل الموافقة على المرشح الذي يدعمه «الحزب»: اللامركزية الإدارية والمالية، الصندوق الائتماني وبناء الدولة. وبديهي أن يبدي «حزب الله» استعداده للنقاش فيها. لكن هذه العناوين ستبقى في الواجهة وكأنّها هي العُقد الواجب حلّها لإنجاز الصفقة الجديدة بين قطبي «التفاهم»، فيما المشكلة الحقيقية تكمن في الحصّة التي يريد باسيل أن يحصّلها خلال العهد المقبل، وربما في ضمانات «ما بعد» هذا العهد.
البعض يعتقد أنّ أمام باسيل و«حزب الله» متسعاً من الوقت، خلال آب الجاري، لكي يتوصلا إلى توافق. وإذا حصل ذلك، فسيتبلور بالتزامن مع عودة الوسيط الفرنسي جان إيف لودريان في أيلول. وحينذاك، ربما تكون التغطية المسيحية قد توافرت لجلسات الحوار التي ترغب باريس في رعايتها في قصر الصنوبر.
إذا عاد باسيل إلى الأحضان، كما كان، فستجد المعارضة نفسها ضعيفة في المواجهات المقبلة. فموقع باسيل حساس في توازن اللعبة الداخلية. وسيتاح لـ«حزب الله» أن يكون أقدر على حسم اتجاهات اللعبة والتحكّم بنتائجها.