كتبت هيام القصيفي في “الأخبار”:
يرصد الجيش تداعيات أحداث عين الحلوة، بما هو أبعد من اليوميات العسكرية. وهو إذ لا يتوقف عند سيناريوهات ما قبل المعركة، ينتظر زيارة وفد من حركة فتح، ويتخوّف من تمدّد التفلّت الأمني وتجدّد ظاهرة التنظيمات الأصولية
يتعاطى الجيش بواقعية مع أحداث عين الحلوة. الخطورة في ما جرى تكمن في مستويات عدة، لا تنحصر بالوقائع الأمنية اليومية التي جرت، من اغتيالات متبادلة وقصف وتهجير وتدمير. والإطار السياسي – الأمني الأوسع، يتعلق بقراءة سياسية أمنية، لما قبل وما بعد أحداث عين الحلوة. علماً أن وفداً سياسياً رفيع المستوى من حركة فتح سيزور بيروت قريباً لمواكبة مرحلة ما بعد وقف النار وتثبيته والعمل على محاصرة تداعياته.
كان جلياً أنه لم يتم التعامل سياسياً مع انفجار الوضع الأمني بالاهتمام اللازم مع بدء الاشتباكات. القوى السياسية الرئيسية من الصف الأول، والمسؤولة مباشرة، تصرّفت وكأنّ الحدث الأمني محصور في حدود مخيم عين الحلوة والفصائل الفلسطينية، ولا انعكاس مباشراً له على مجمل الوضع الداخلي. وحكومة تصريف الأعمال تحرّكت لاحقاً، فيما أخذ الموضوع الأمني صداه على قاعدة المطالبين بلجم التدهور من جهة والراصدين لخلفية ما جرى وتداعياته، بما هو أبعد من الساحة اللبنانية ليطاول الضفة الغربية وغزة. ومع تصاعد حدة الاشتباكات وتوسّعها وحجم التهجير الذي رزحت تحته صيدا، انتقل التحرك إلى مستوى أكثر فاعلية.
رغم أن الجيش عمل منذ اللحظة الأولى على محاولة وقف الاشتباكات، إلا أن ثغرة أساسية تعيقه، فهو لا يتواصل إلا مع فتح، ولا صلة مع التنظيمات الأصولية التي عمل وسطاء على التواصل معها. في المقابل فإن ما يُتوقف عنده اليوم أمران، تثبيت وقف النار وعدم الانزلاق مجدداً إلى الاشتباكات، وتسليم «جميع» المطلوبين بالاغتيالات، ولا سيما لمعرفة خلفيات وحقيقة الدوافع التي أملت ما جرى. ومع ذلك، يُنتظر مجيء وفد فتح لوضع الأمور في نصابها ومعرفة حقائق المرحلة المقبلة.
فتحت اشتباكات عين الحلوة العيون على أن مشكلات المخيمات لا تزال قائمة وتحمل جذوراً خطرة في حال قرّر أي من الأطراف استخدامها. فالانشغال اللبناني بالنزوح السوري وبمخيمات النازحين، حجب لأشهر طويلة النظر عن قضايا المخيمات الفلسطينية الاجتماعية والسياسية والأمنية. وبالكاد كان الاهتمام بما يجري فيها من خلافات داخلية، وارتباطها في أحيان كثيرة بما يحصل من مواجهات في الضفة الغربية وغزة مع السلطة الفلسطينية وضدها. لكنّ حجم المشكلات الاجتماعية يضاف إليها تحوّل مناطق في المخيم إلى ملاذ آمن لهاربين من القانون، وتفاقم الخلافات داخل فتح التي أظهرت الأيام الأخيرة عدم تماسكها، وبينها وبين القوى الفلسطينية الأخرى، كلّ ذلك يجعل من أي ساحة عرضة للانفجار في أي لحظة.
لا يتصرف الجيش على أن الحدث الأمني مخطّط له مسبقاً، ولا يتعامل مع أي سيناريو متداول من هذا القبيل، ولا مع الاتهامات لأي فريق لبناني بالدخول على خط الاشتباكات. وزيارة مدير الاستخبارات الفلسطينية ماجد فرج للجيش التي قيل الكثير عنها في ما يتعلق بالتنسيق مع الجيش داخل المخيم، علماً أنه زار أجهزة أمنية ورسمية أخرى، بعد جولة له في المنطقة، كان محضّراً لها منذ أكثر من سنة. والجيش كان يعبّر دوماً عن قلقه من أحداث متتالية وقعت في المخيم مسجّلاً 260 حالة إطلاق نار منذ آب 2022، وحرص مراراً على مطالبة القوى الأمنية الفلسطينية بالتحرك لضبط الوضع وتوحيد قواها لمواجهة الأحداث المتفلّتة. انطلاقاً من ذلك، حملت زيارة المسؤول الفلسطيني، إضافة إلى معالجة مشكلات فلسطينية داخلية بين السفارة الفلسطينية ولجنة الحوار الفلسطيني اللبناني وخلافات داخل أجهزة فتحاوية، ترتيب وضع القوى الفلسطينية المشتركة. وتبعاً لذلك لا توضع زيارة فرج في خانة تحريك ساحة المخيم. ولو كان ذلك صحيحاً لكان فريق فتح أكثر استعداداً لوجيستياً للمواجهة، على عكس ما أظهرته الوقائع الميدانية من عدم قدرة على الحسم في الأيام الماضية .
كلّ ذلك لا يعني في المقابل أن أي توقيت للحدث لا يستدعي المتابعة، أو أن حجم ما حصل ونوعية المشاركين وانتماءاتهم، لا تتطلب حصر التداعيات مع البدء جدياً العمل لمواكبة ما سيجري من الآن وصاعداً. لذا يتم رصد دقيق لما جرى من جوانب مختلفة. فمهما كانت خلفية الذين اتهموا حركة فتح بإشعال نار المعركة، وربط مدير الاستخبارات باتجاهات إسرائيلية، فإن حصيلة المواجهة تفترض التنبه لها، إذ إنها أعادت إلى الواجهة الأمنية والعسكرية، الفصائل المتشدّدة والأصولية، ومعظم المشاركين في الاشتباكات من المطلوبين للجيش والعدالة. فما هي مصلحة أي فريق لبناني بتعويم التنظيمات الأصولية مع كل ما ارتكبته في لبنان، وليس الفصائل الفلسطينية المعارضة لفتح وذات الوجه السياسي، وإعادة شد العصب لدى شريحة لا يستهان بها من الشباب الفلسطيني والسوري الذي سبق أن لجأ إلى المخيم بعد حرب سوريا. وتنشيط العامل الأصولي بعد انحساره وفي مرحلة لبنانية حساسة، لا يبشر بالخير ويستدعي نظرة مختلفة من قوى سياسية معنية، كي لا تتكرر تجربة نهر البارد.
في موازاة ذلك، يبرز التخوف الأساسي، في تنشيط هذه الجبهات واستمرار المعارك، من احتمال تمدد ما يحصل إلى مخيمات أخرى، إذا ما استفاد أي طرف من التطورات لتعزيز وجوده في المخيمات الأخرى. وأي حدث مماثل في مخيم آخر، سيكون من الصعب على القوى الأمنية والجيش تحديداً مواجهته في ظل انفلاش التوتر على مساحات أخرى.
من الواضح أنه لا يتم التعامل مع عين الحلوة كحدث معزول عن مقاربة وضعية كل الأطراف المتورّطة فيه وأهدافها. والخشية ليس في تكرار الاشتباكات فحسب، بل في أمرين، التعامل مع الحدث الأمني موسمياً، بمعنى عدم معالجة جذوره وتركه يتفاقم، وتكاثر أدوات الصراعات الداخلية، بما يجعل من الصعب تجاوز تداعياتها ولا سيما أن الجيش مُقيّد إلى حد كبير في التعامل مع الوضع الأمني داخل المخيم. فهذا قرار سياسي كبير يتعدّى الإدارة العسكرية مهما كان حجم الصراع، ولا يبدو أن أحداً مستعدّ لأخذه لا حاضراً ولا مستقبلاً.