كتب طوني كرم في “نداء الوطن”:
تحلّ الذكرى الثالثة لتفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020، على وقع إحتدام نزاعٍ خفيّ بين المؤتمنين على تحقيق العدالة في لبنان؛ أدّى إلى إقحام السلطة القضائية في خضمّ الشرخ السياسي ما بين مؤيّدٍ لمسار المحقّق العدلي طارق البيطار، ويحظى بدعم أهالي الضحايا، وبين رافضٍ له بعد تحويل المحقّق العدلي مدّعى عليه بجرم «إغتصاب السلطة»، خصوصاً بعدما وصل به الأمر إلى الإدعاء على المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات وآخرين.
بعد تعليق التحقيق في 23 كانون الأول 2021، وانتظارٍ دام ما يقارب 13 شهراً من دون تمكن القضاء من بتّ طلبات الردّ والمخاصمة المقامة في وجه المحقّق العدلي طارق البيطار، وبروز محاولات جمّة لتعيين قاضٍ رديف يأخذ على عاتقه بتّ طلبات إخلاء سبيل الموقوفين والمدّعى عليهم في الملف، إرتكز القاضي البيطار على اجتهادٍ قانوني أعدّه، خوّله الإعلان في 23 كانون الثاني الفائت، عن استئناف عمله وتخطّي التعثّر في التحقيق. وذلك، إستناداً إلى تحليل قانوني، قال فيه «إن القواعد التي تحكم عزل القضاة المنصوص عليها في المادة 357 من القانون 328 لا تنطبق على دوره، وإن محاولات عزله قد تكون انتهكت المبدأ الدستوري لفصل السلطات»، وفق ما ورد في تقريرٍ صادر عن «هيومن رايتس ووتش» و»منظمة العفو الدوليّة».
ولم يقف البيطار عند هذا الحدّ، بل عمد إلى الادّعاء على المدّعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، والمدير العام السابق للأمن العام عباس إبراهيم، والمدير العام لأمن الدولة طوني صليبا، وقائد الجيش السابق جان قهوجي، وضابطي المخابرات السابقين جودت عويدات وكميل ضاهر، ورئيس المجلس الأعلى للجمارك أسعد الطفيلي، وعضو المجلس غراسيا القزي، والقضاة: غسان خوري، وكارلا الشواح، وجاد معلوف؛ وتحديد مواعيد لمثولهم أمامه ضمن مهلة لا تتعدى الشهر الواحد. وبذلك انضمّت تلك الأسماء إلى القائمة السابقة للمدّعى عليهم، ومن بينهم رئيس مجلس الوزراء السابق حسان دياب، والوزراء السابقون نهاد المشنوق وعلي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فنيانوس.
إلّا أنّ الردّ على البيطار لم يتأخّر، وأتى سريعاً فأمر القاضي عويدات بإطلاق جميع الموقوفين في قضيّة تفجير المرفأ، والادّعاء على المحقّق العدلي البيطار بارتكاب «جرائم عدة»، منها «إغتصاب السلطة»، ومنعه من السفر، وتحديد 26 كانون الثاني 2023 موعداً لاستجوابه. وذلك قبل أن تؤدي الإتصالات داخل مجلس القضاء الأعلى إلى وقف هذه الإجراءات مع تعليق كلا الطرفين مواعيد مثول المدعى عليهم أمام المرجع القضائي المعني في الادّعاء.
في غضون ذلك، ورغم رهان البعض على أنّ إطلاق الموقوفين يعدّ محاولة متقدّمة لإفراغ الملفّ من جديّته، ويبدّد الآمال المعقودة على إعادة استئناف التحقيق المحلي، إلى جانب المطالبات النيابيّة والشعبيّة الهادفة إلى تأمين التأييد الدولي عبر «مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة» من أجل إنشاء بعثة محايدة لتقصي الحقائق في تفجير مرفأ بيروت؛ فإنّ تكليف رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود، قبل ما يقارب الشهرين، للرئيس الأول لمحكمة الاستئناف القاضي حبيب رزق الله، مهمة الإستماع إلى القاضي البيطار في الادّعاء المقام في وجهه من المدّعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، ترك الباب مشرعاً أمام عدة خيارات، تتمحور على تعزيز مشروعيّة الإجتهاد الذي إرتكز عليه المحقّق العدلي القاضي البيطار من أجل تخطي طلبات الردّ في حقه، أو إطلاق رصاصة الرحمة القاضية على الآمال في تحقيق العدالة، ومن خلالها القضاء على السلطة القضائيّة في لبنان.
3 احتمالات أمام القاضي رزق الله
وفي هذا السياق، يوضح المحامي نزار صاغيّة لـ»نداء الوطن»، أنّ تعيين محقّق للإستماع إلى القاضي البيطار من شأنه أن يحمي التحقيق، بعد أن كان المدّعي العام التمييزي يستطيع استكمال خطواته التصعيديّة بإصدار مذكرة جلب في حق المحقّق البيطار وصولاً إلى توقيفه. في حين أنّ القاضي رزق الله وبعد الاستماع إلى البيطار قد يعمد إلى إعادة إطلاق المسار القانوني للتحقيق، وتجنيبه المزيد من العراقيل.
ورغم استغراب أوساط قضائيّة سرعة تسريب خبر تعيين الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف للاستماع إلى البيطار، نظراً إلى السريّة المطلقة التي ترعى التحقيق مع القضاة، فقد كشفت أن بتّ الادّعاء على البيطار لا يتطلّب الكثير من الوقت، ويتمحور على 3 خيارات:
1- حفظ الشكوى المقامة في حق القاضي البيطار، واعتبار أنّ ما قام به لا يندرج في خانة «اغتصاب السلطة» واستغلال مركزه. وهذا ما يؤدّي حكماً إلى الإفراج عن التحقيق وصولاً إلى إصدار القرار الإتهامي بعد تخطي كل العراقيل وطلبات الردّ المقامة والتي قد يلجأ البعض إليها في وقت لاحق من أجل الإمعان في تعطيل التحقيق.
2- إعتبار القاضي رزق الله أنّ ما اجتهده البيطار لنفسه من أجل تخطي طلبات الردّ ووضع يده من جديد على الملف غير قانوني، وتجاوز للصلاحيات المنوطة به. وهذا ما يؤدي إلى بتّ الشكوى لمصلحة عويدات، واتهام البيطار بـ»اغتصاب السلطة»، وتالياً محاكمته.
3- ترجمة المساعي التوفيقيّة التي يدأب رئيس مجلس القضاء الأعلى في القيام بها للحدّ من الشرخ وضرب السلطة القضائية في قرار رزق الله، واعتبار الطرفين على بينّة من الحقيقة، وأن لا خلفيات جرميّة تستدعي محاكمة البيطار أو كسر عويدات. وهذا ما يكفل للبيطار العودة إلى استكمال التحقيق وإصدار قراره الإتهامي ووضع الكرة في ملعب النيابة العامة التمييزيّة لإبداء الرأي في حال ارتأت الاطّلاع على قرار البيطار، وسط ترجيحات تشي برفض استلامه من الأساس.
تخوّف من تحلّل ما تبقّى من السلطة القضائية
وإذ حلّت الذكرى الثانية لتفجير المرفأ على وقع مراقبة انهيار الأجزاء المتبقّية من أهراءات المرفأ، الشاهد الحيّ على جريمة العصر، فإن التخوّف من تحلّل ما تبقّى من سلطة قضائيّة في لبنان يطغى خلال إحياء الذكرى الثالثة لهذا التفجير، وسط تشديد الأهالي على وجوب العمل على إبطال مفاعيل الإنقلاب على المحقّق العدلي، والسعي إلى إنشاء لجنة تقصّي حقائق دولية.
وفي هذا السياق، كشف المحامي نزار صاغيّة أنّ تكليف القاضي رزق الله، التحقيق مع القاضي البيطار أزال الخطر عن إمكان توقيف الأخير، جرّاء تنفيذ مذكرة الجلب الصادرة عن القاضي عويدات في حقه. وأعاد التأكيد على إمكان أن يساهم قرار القاضي رزق الله في تحسين مشروعية الإجتهاد الجريء أي «اجتهاد الضرورة» الذي ارتكز عليه البيطار من أجل تخطي الثغر التي تعوق استكمال المسار القضائي للملف، وإثبات أنّ البيطار فعلاً صاحب سلطة ولا يعمد إلى اغتصابها. ويكرّس بذلك، تحريره من دعاوى الردّ والمخاصمة التي تحوّلت كيديّة، ويعطيه مشروعية تخوّله الوقوف في وجه هذه «الترسانة» أي المنظومة التي تعمد إلى مهاجمته.
وإلى جانب ترك صاغيّة الباب مشرعاً أمام إمكان الضغط من جديد على قاضي التحقيق رزق الله من أجل اتخاذ القرار الذي يضمن استكمال التحقيق، كما مناشدة البيطار استكمال عمله وإصدار تقريره الظني في حال عدم بتّ رزق الله الملف؛ رأى أن إمكان لجوء القاضي رزق الله إلى اتخاذ قرار سلبي في حق البيطار من شأنه أن يضع قضية التحقيق في تفجير المرفأ في مكان بالغ الحرج، وصعب للغاية، ويدلّ الى أنّ تعطيل الدعوى أصبح أبدياً والوصول إلى الحقيقة أصبح عبثياً… قبل أن يستطرد واضعاً إمكان اعتبار القاضي البيطار مغتصباً للسلطة، و»كأنّه إعلان من القضاء نفسه على إنهاء السلطة القضائية في لبنان، وإعطاء أحقيّة ووسيلة لتشريع الحواجز التي تساهم في نسف العدالة، أكان في هذه القضيّة أوما سينطبق لاحقاً على العديد من القضايا المشابهة». وعن المطالبة بتحقيق دولي، رأى صاغيّة أنّ هذا الخيار غير متاح جرّاء غياب الإرادة الدوليّة بذلك، ما دفع الأهالي إلى الإستعاضة عن المطالبة بتشكيل محكمة دوليّة، بإنشاء لجنة تقصي حقائق عبر مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، لتعمل تحت إشراف القاضي والمحاكم اللبنانيّة، إلا أنّ هذا الأمر أيضاً لا يزال بعيد المنال، وسط نقل تقرير صادر عن «هيومن رايتس ووتش» أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رفض هذا الخيار.
رالف طنوّس
إلى ذلك، وبعد إطلاق الموقوفين في الملف، ومحاولة ترهيب أهالي الشهداء عبر الشكاوى المقامة في حقهم، إعتبر المحامي رالف طنّوس أنه رغم التبعات الخطيرة للإعتداء على التحقيق، أو الإنقلاب عليه، إلّا أن إطلاق الموقوفين لا يعدّ مانعاً أمام استمرار التحقيق، لكون تحديد المسؤوليات غير مرتبط حصراً بالمشتبه فيهم أو الموقوفين السابقين.
ولفت طنّوس إلى وجوب أن يعمد مجلس القضاء الأعلى إلى انتداب قضاة لرئاسة محكمة التمييز تمهيداً لبتّ هيئتها العامة طلبات الردّ، وعدم انتظار مآل الشكوى المرفوعة في حق القاضي البيطار. وذلك وسط تشديده على محاولات الضغط على أهالي الشهداء التي لم تردعهم عن المطالبة بإحقاق العدالة.
المدّعى عليهم: لإعادة تصويب المسار القضائي
وفي سياق متصل، ومع التخبّط القضائي الطاغي على هذا الملفّ، اعتبرت أوساط المدّعى عليهم في هذه القضيّة أن تعطيل المسار القضائي فاقم الضرر اللاحق بهم، وسط تشديدهم على اتّباع الأطر القانونية التي يكفلها القانون من أجل تبيان براءتهم والدفاع عنهم منذ اليوم الأول.
ورغم وضع طلبات الردّ في خانة التعطيل الممنهج للمسار القضائي، رأت الأوساط نفسها أنّ القضاء لم يتح لهم حتى الآن حق الدفاع عن الإدعاءات المساقة في حقهم، تحديداً وأنّ الأصول التي اتبعها القاضي البيطار في حقهم تعدّ مخالفة للقانون، جرّاء إمعانه في ردّ الطلبات شكلاً دون إفساح المجال أمام البحث في مضمون تلك الطلبات، قبل رمي المسؤوليات من جديد ما بين محكمتي الاستئناف والتمييز.
ووسط تأكيدهم على الشوائب التي تعتري المسار القانوني لمقاربة هذا الملف، ومنها وضع اجتهادات البيطار الخاطئة في خانة التزوير الجنائي، شدّدت الأوساط نفسها على وجوب استكمال التحقيق وتصويب مساره الذي دفع بعض أهالي الضحايا، كما الموقوفين والمدّعى عليهم إلى الإعتراض عليه قبل أن يتحوّل هذا الإعتراض إلى مشكلة داخل السلطة القضائية نفسها.
وحتى جلاء الصورة النهائيّة للتخبّط السياسي القضائي المسيطر على هذا الملف، تبقى المطالبة بكشف الحقيقة وإحقاق العدالة مطلباً مشتركاً بين أهالي الضحايا، كما بين المشتبه في ضلوعهم في هذه القضيّة، التي تتطلب مواكبةً من الرأي العام والدفع باتجاه إعلاء صوت الحق والعدالة ولو لمرة واحدة في تاريخ لبنان.