كتب زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:
في حياتهم لم تنته ساعات ذاك الليل الطويل ولم يبزغ فجره بعد. هو الرابع من آب ما زالوا يعيشونه كل يوم، ليس كذكرى بل كواقع يتعايشون مع تداعياته في كل لحظة. جرحى ومصابون غيرت الكارثة حياتهم، جعلتهم في منطقة وسطى بين الحياة والموت، الذي يتمنونه أحياناً. جريمة ضد حقوق الإنسان، ضد حقه بالعيش والأمان والرعاية، يحاولون تغطية خيوطها وإسكات كل من يحاول كشفها، فيقتلون الضحايا مرتين ويمنعون على المصابين شفاء جروح النفس والجسد.
6،07 لحظة بعثرت حياتهم، ولا يزالون حتى اليوم يحاولون لمّ شتاتها. مصابون، جرحى ومعاقون يموتون موتاً صغيراً كل يوم، في أجسادهم كما في أرواحهم ترك الانفجار الجريمة كلوماً، قليلون تخطوها وكثر يعانون ندوبها. حالات صعبة قاسية واكبنا معاناتها وعرفنا كم هو قاس الاستهتار بأرواح الناس وآلامهم وكم هو مؤلم أن تتغلب النقمة والحقد على الألم.
ليديا وفاة تأجلت
1057 يوماً عاشتها ليديا فرعون بعد انفجار الرابع من آب ورحلت بصمت في الثامن والعشرين من شهر حزيران الماضي. منذ اللحظة الأولى كانت مصرة على أن يسجل اسمها بين لائحة الضحايا وظلت حتى اللحظة الأخيرة تصر أن وفاتها حين تحصل لن تكون إلا موتاً مؤجلاً بعد ذاك اليوم المشؤوم. منزلها الكائن مباشرة تجاه العنبر رقم 12 في المرفاً والأقرب إليه انفجر من هول الانفجار وتشلعت جدرانه وتهدم فوق رأس ليديا وزوجها عصام. البيت الذي أمضى فيه الزوجان 57 عاماً من الحياة المشتركة واحتضن العائلة والأبناء والذكريات وكان يفترض به أن يحتضن أيام التقاعد الهادئة، هوى فوق رأسيهما وأصيب الإثنان إصابات بالغة.
1500 قطبة احتاجت ليديا فرعون بعد الانفجار لمداواة جراحها التي خلفها الزجاج المتناثر الذي انغرز في أنحاء جسمها. توفيت وزجاج بيروت لا يزال يملأ جسدها كما تقول ابنتها لارا. خسرت ليديا أكثر من 60% من سمعها بعد الانفجار واحتاجت الى عمليتين جراحيتين مباشرة إثر الإصابة في ساقيها لتستمر بعد ذلك رحلة الألم والعذاب مع عمليات متكررة لإزالة قطع الزجاج من المناطق الحساسة بعد أن باتت تهدد الوظائف الحيوية. أصيب زوجها عصام في رأسه وجسمه وإن كانت الإصابة أخف من إصابتها لكن الالم والحزن عادل بين الإصابتين. «الندوب التي خلفتها الجروح في جسدَي أمي وأبي لم تكن ألوانها طبيعية ككل الندوب، بل كانت غريبة بألوانها والباكتيريا الموجودة فيها وهو ما يشير الى المواد الكيميائية التي دخلت الجسم».
منذ الرابع من آب 2020 لم تعد ليديا تعرف يوماً هادئاً، أوجاع مستمرة غير مألوفة تكاد تتخطى الطبيعي، ومع كل يوم تتكشف انعكاسات جديدة للإصابة: قلة توازن، صعوبة في النوم مع توقف للنفس أحياناً. السيدة التي كانت تملأ حياة عائلتها حباً وحياة تغيرت صارت إنسانة مختلفة، مقهورة لا تشعر بذاك الرضى الذي كان يرافق حياتها، ما عادت مرتاحة لا في صحتها ولا في بيتها الذي تم ترميمه بعد جهود جبارة وبات بيتاً جديداً،غريباً، مختلفاً عن الحضن الدافئ الذي عاشت فيه 57 عاماً. «يا ريت رحت بهيداك اليوم» عبارة ظلت ليديا ترددها وأمنية كانت تتمناها في قرارة نفسها لكنها صمدت وجاهدت من أجل أبنائها لتبقى حاضرة أمامهم.
«الخسارة التي مني بها أهلي كانت أكبر من أن تعوض فهما لم يفقدا جدراناً واثاثاً ومقتنيات بل فقداً بيتاً شهد كل مراحل حياتهما الزوجية وكل ما فيها من ذكريات. كانا يعودان من أسفارهما بتذكارات صغيرة يجمعانها في البيت، وكان البيت بالنسبة إلينا نحن الأبناء محطة يومية إجبارية نزوره لنستمد منه البركة والحب لحياتنا اليومية. من هنا استمددت القوة لأكافح من أجل إعادة بناء البيت. سنة ونصف أمضاها الوالدان خارج بيتهما في بيت آخر، ورغم كل الحب والدعم الذي تلقياه من الأبناء إلا أنهما بدوا ضائعين وقد فقدا كل ما اعتادا عليه من معالم. وحين عادا الى البيت بدا كل شيء غريباً تم ترقيعه بالممكن وما عاد يذكرهما بحياتهما الماضية».
رجعت ليديا الى بيتها لكن لحظات الانفجار لم تغادر ذاكرتها، حتى ستارة النافذة التي تطل على المرفأ كانت ترفض أن ترفعها، لا تريد لها أن تذكرها بلحظة مرور الصاروخين اللذين تقول إنها رأتهما بأم العين ذاك اليوم وتخشى مرور غيرهما. تجلس على سريرها تتأمل بيتها بحرقة وتتذكر…ليديا رحلت الى مكان آخر علها تجد فيه العزاء و الراحة لكنها تركت خلفها زوجاً تائهاً وأبناء لا يستطيعون أن ينسوا…
«والدي – تقول لارا- خسر بيته ومقتنياته وسيارته الجديدة التي اشتراها قبل فترة بسيطة من الانفجار، وقد أحزنه فقدانها كما احزنه ذاك الشعور بانه فقد جنى عمره. واليوم بعد رحيل أمي تجرع كأس الفقدان التام حتى الثمالة. كلنا لم نعد كما كنا فأنا لا استطيع سماع صوت سيارة إسعاف او رؤية مستشفى لشدة ما عانيناه في هذه السنوات الثلاث، لكن الأسوأ أن أحداً لم يلتفت إلى أهلي أو يعوض عليهم صحتهم وبيتهم وسيارتهم وكأنهم تركوا لمصيرهم يتدبرونه كما يقدرون. حتى اليوم لا تزال حجارة البناية المجاورة مهددة بالسقوط في اية لحظة لذا نحن كأهالٍ سنزيلها على نفقتنا الخاصة لنحمي من تبقى من كارثة جديدة. نحن نعرف حقيقة ما حصل لكننا نكاد نموت واحداً بعد الآخر قبل أن يقروا بهذه الحقيقة»
ناجي إنسان آخر
لحظة دوى انفجار الرابع من آب أصيب ناجي مخلوف الذي يسكن منزلاً قريباً جداً من المرفأ إصابة مباشرة أدخلته في غيبوبة تامة لمدة اسبوع وحين استفاق كان لا بد أن يخضع لجراحة فورية لترميم الجمجمة. مشوار المعاناة لم يتوقف بعد خروج ناجي من المستشفى بل بدأت رحلة من نوع آخر شهدت تحول هذا الزوج والأب الى إنسان آخر مختلف بشكل كلي عن ذاك الرجل «السوبر القوي» الذي كانه قبل الإنفجار.
« بعد الجراحة، بدأ يتعرض لنوبات كهرباء قوية تهز كيانه كله وعلى أثرها تغيرت حياته وحياتنا كعائلة أنا وابنتنا تقول نيكول طربيه زوجة ناجي. فقد زوجي كل ما يرتبط بالمشاعر والأحاسيس والقدرة على التخطيط للمستقبل كما فقد حاستي الشم والذوق. لم يعد لديه اي اهتمام بالحياة واصيب بما يشبه الكآبة. غيرت الإصابة شخصيته وقد عرفنا بعد جهود مضنية وبحث طويل ان إصابته تركت آثاراً في الدماغ في المنطقة المسؤولة عن الشعور وفق ما شرح لنا طبيب مختص استطعنا الوصول إليه بصعوبة بعد « تبويس ألف يد».
لا يتذكر ناجي شيئاً عن الانفجار واللحظة التي حدث فيها. واليوم حين تسأله المعالجة النفسية بم يشعر يجيبها أنه لا يشعر بشيء أو بأن شيئاً ما قد تغير في حياته وحياة عائلته. «اشعر كأنني أعيش مع شخص آخر تقول نيكول، صحيح ان الضرر عليه كان كبيراً لكن الضرر الأكبر كان علي وعلى ابنتي. فالرجل «السوبر قوي» الذي كان سنداً لي ولابنتي هو اليوم لا يعمل، وبعد ان كان مدرباً رياضياً لم تعد لديه القدرة على القيام بهذا العمل».
ناجي لم يتخط الثامنة والأربعين من عمره ولا تزال ابنته نور وهي في الثالثة عشرة بحاجة الى والدها، كانت ترى فيه جبلاً تستند إليه وصار اليوم أمامها كحبة رمل. ربما تعاني في مدرستها من نظرة الرفاق وتشعر بما تمر به والدتها لإحاطتها بالأمان الذي تحتاجه وتشتاق الى والدها الذي تعرفه رجلاً آخر. معاناة ناجي الجسدية لم تتوقف فنوبات الكهرباء تباغته من وقت الى آخر وتطرحه بقوة على الأرض فينجرح راسه من جديد ويحتاج الى جراحة أخرى. الأطباء يتعاطفون مع حالته دون أن يبدوا أملاً كاذباً ويحاولون معه أدوية جديدة تحتاج الى اشهر حتى يبدأ مفعولها بالظهور.
«معاناتنا اتخذت أكثر من شكل تقول الزوجة، فالصعوبة الأبرز في إيجاد الطبيب المختص الذي يفهم الحالة ثم الحصول على موعد منه وبعدها انتظار مفعول الدواء. والصعوبة الثانية الوضع المادي الذي بات يشكل عبئاً علينا كما على كل العائلات، فأنا أعمل أكثر من عمل واحد وأجاهد بكل قدرتي لتأمين ما يحتاجه زوجي وابنتي، لكن الظلم الذي اشعر به يطغى على أية معاناة مادية. فأنا لا أتقبل ما حصل، أشعر أنهم اغتصبوا حياتنا داخل بيتنا نائمين على فراشنا..أقول في نفسي احياناً أن الذي توفي ورحل عن هذه الدنيا ربما ارتاح من معاناته. يقال أن الحزن مثل الصابون يذوب ويتلاشى مع الوقت لكن حزننا يكبر فيما وحدها جريمة المجرم هي التي تصغر وتكاد تتلاشى. الجريمة تذوب والظلم يكبر على الضحايا. هذا الإحساس بالغضب والوجع والخوف والحقد والكراهية يشلني ويجعلني أعيش تمرداً داخلياً لا أعرف كيف اعبر عنه. أحاول جاهدة ألا تنعكس هذه الأمور السلبية على ابنتي لكنني في النهاية من البشر ومهما حاولت لا أستطيع إخفاء هذه المشاعر السلبية عنها».
شعور الخوف لا يغيب عن نيكول، هي على يقين بأن ثمة ضربة أخرى آتية لا محالة. لمَ لا؟ تسأل نفسها، من نجح أول مرة في قتلنا ومرت جريمته من دون عقاب، اي رادع سيمنعه من تكرار جريمته؟ والثانية قد تكون اصعب واقسى لأن الأولى مرت دون مساءلة حتى أنهم قتلوا كل من وجد خيطاً لإدانة المجرم. «راس البيت قد ضرب وانكسر فما الذي يبقى لي بعد؟» تقولها بحرقة سيدة ارادت أن تمضي عمرها مع شريك احبته واختارته فإذا بجريمة العصر تحوله إنساناً آخر.
ظلم المعاناة ومعاناة الظلم
لم تدرك ليليان شعيتو أن فرحة شراء الهدية التي كانت سترسلها الى زوجها المسافر سوف تكون آخر فرحة في حياتها ومن بعدها ستكون أيامها كلها مغمسة بالألم والحزن ومكللة بالظلم واللاعدل. كانت في أحد المتاجر في مجمع أسواق بيروت حين دوى الانفجار. واجهة المتجر الزجاجية الكبيرة سقطت عليها ولسوء حظها كان ذاك الزجاج مزدوجاً وسميكاً ومن النوع الذي لا يتفتت. من وزن الزجاج هوت ليليان وارتطم راسها بعنف بالأرض واصيبت على الفور بكسر في الجمجمة ونزيف داخلي. الموجودون في المتجر ظنوها ميتة لكنهم رأوا الزجاج يتحرك فوق صدرها فحملوها الى مستشفى الجامعة الأميركية. حالتها كانت صعبة جداً، ترجى أهلها الأطباء والمستشفى لإجراء عملية جراحية لها لكن هؤلاء وإن لبوا الطلب حكموا بأنها لن تعيش إلا اياماً نظراً لصعوبة حالتها. لكن ليليان قاومت وبقيت على قيد الحياة، فتحت عينيها وسط دهشة من حولها إنما دون اية حركة أو كلام، ثم راحت تلاحقهم بحركة عينيها ليبدأ بعدها مشوار التطور البطيء والطويل. ستة أشهر قضتها ليليان في مستشفى الجامعة الأميركية وفق ما ترويه لنداء الوطن شقيقيتها نوال. لكنها كانت تحتاج الى مركز علاج فيزيائي يساعدها في استعادة النطق والحركة وهنا بدأت مأساة من نوع آخر أتت لتصب الزيت على نار المعاناة الأصلية.
لم تستطع ليليان الخروج من المستشفى والانتقال خارج البلد للمعالجة لأن جواز سفرها لم يكن معها، رفض زوجها إعطاءه لها وفق ما تخبر شقيقتها. ناشد أهلها المسؤولين وتحولت قضيتها الى قضية رأي عام وتحت ضغط الناس والجمعيات تدخل اللواء عباس ابراهيم واستخرج جواز سفر لليليان وإذناً بالسفر.
في هذه الأثناء حاول أهل ليليان نقلها الى مركز تأهيل لكن وزارة الصحة لم تؤمن تغطية التكاليف إلا في مؤسسات محمد خالد. وفي عز أزمتي كورونا والأزمة المالية كان وضع المؤسسة المذكورة صعباً لا أدوية ولا أطعمة خاصة كتلك التي تحتاجها ليليان التي تأكل عبر نربيش موصول الى خاصرتها، ولا اختصاصية نطق. حاول القيمون على المؤسسة مساعدتها لكن الوضع فيها لم يكن مناسباً لحالة ليليان المتقدمة.
أمضت الأم الشابة التي تحولت ايقونة ألم وظلم في مستشفى الجامعة الأميركية سنتين وثلاثة اشهر تكفلت فيها المستشفى بتكاليف العلاج فيما تكفل الأهل بالأدوية والاحتياجات اليومية. خضعت خلال هذه الفترة لأربع جراحات في راسها ووضعت تحت جهاز تنفس بعد أن تم ثقب قصبتها الهوائية لتستمد منه الأوكسجين.في الرابع من آب 2022 حصلت ليليان أخيراً على جواز سفرها واستغرق تأمين مركز خارج لبنان وإعداد تجهيزات السفر حوالى ثلاثة اشهر لتنتقل بعدها بواسطة طائرة إسعاف خاصة الى مركز تأهيل في تركيا.
في رحلة الألم والمعاناة كانت عائلة ليليان وأخواتها الأربع حولها لم يتركنها دقيقة لا ليلاً ولا نهاراً يتناوبن الأدوار بتفان وحب مطلق. النوم المستمر على سرير المستشفى ساهم في تعقيد حالة ليليان ولو استطاعت الخروج الى مركز تأهيل بعد ستة أشهر لربما كانت حالتها قد تحسنت ولم تضعف عضلات ساقيها كما حصل معها. في تركيا احتاجت الصبية الى عملية جراحية في ساقيها لتستعيد بعض حركتهما وبدأت تخضع لعلاج فيزيائي مكثف وعلاج بالنطق من قبل إختصاصية لبنانية تتابعها أونلاين من بيروت وتؤمن لها الدعم النفسي. بدأت حالة ليليان الجسدية تتحسن نتيجة العلاجات، تحسن وعيها بنسبة 90% وصارت تستطيع تحريك يدها اليمنى وباتت قادرة على الوقوف مع مساعدة وعلى نطق بضع كلمات بسيطة… لكن حالتها النفسية لم تجد من يعالج جروحها أو يزيل الظلم الذي أصابها.
حرمت ليليان من رؤية ابنها الذي كان يبلغ يومه الأربعين وقت الكارثة ووفق ما تقوله شقيقتها نوال فرض عليها حجر صحي من قبل المحكمة الجعفرية لكن في الرابع من آب 2022 صدر حكم يعطيها الحق كما لعائلتها برؤية طفلها لكن الحكم لم ينفذ. وبعدها عقد صلح بين العائلتين وحظيت ليليان بفرحة رؤية وحيدها في الرابع من آب أيضاً وايضاً عل رؤيته تكسر مرارة ذلك التاريخ القاسي. ومن ثم فرحت به مرتين أخريين لتتوقف بعدها زيارات الصبي إليها وحتى الاتصالات المصورة عبر الفيديو.
في تركيا لا تزال ليليان حتى اليوم تعيش هذا الفراغ العاطفي بعيداً عن طفلها، وفي المركز حيث تتابع علاجها تنساب دموعها كلما سمعت بكاء طفل، وتتعامل مع الأطفال الموجودين في المركز بحنان بالغ وكأنها تعوض بهم عن غياب وحيدها.
نوال التي تركت بلدها وعملها وحياتها لتبقى مع شقيقتها تواكب تحسن حالة شقيقتها خطوة بخطوة كما واكبت مراحل معاناتها. تشكر ربها كل دقيقة على بقاء شقيقتها على قيد الحياة وهي مستعدة أن تبذل أكثر لتساعد اختها التي عانت كثيراً وصبرت كايوب وتحملت آلامها لتواجه مصيرها بإيمان. العائلة كلها وقفت الى جانب الابنة المتألمة والناس في لبنان وقفوا الى جانب ليليان وتعاطفوا مع قضيتها وساعدوا فيما مارسوه من ضغوط على حصولها على جواز سفرها. اللواء عباس ابراهيم كان له دور إنساني كبير ومثله أحد الأشخاص وقد تكفل بدفع ما تبقى من تكاليف علاج ليليان في تركيا بعد حملة تبرعات أنشأتها العائلة وكذلك اختصاصية النطق التي تساعدها من لبنان. وحدها الدولة اللبنانية بقيت غائبة عن مأساة مواطنة كانت ضحية إجرام انفجار المرفأ وظلم الأحوال الشخصية.
حالة ليليان الجسدية تشهد تحسناً وصل الى 50%. عبر ما أرسلته لنا شقيقتها من فيديوات لمسنا تطور حالتها لكن مشوار ليليان لا يزال طويلاً وجراحها المعنوية والنفسية أعمق من أن يبلسمها الوقت والنسيان…
قصة انتهت قبل أن تنتهي
في تمام الساعة السادسة وسبع دقائق انقلبت حياة لارا حايك وعائلتها الى الأبد. عشر دقائق فصلت بين حياة ملأى بالحياة وحياة تشبه الموت. اتصلت بها والدتها نجوى من منطقة الحمرا لتتسايرا وتتطمئن الأم الى تفاصيل يومها كما كل يوم وكانت تلك الكلمات الأخيرة التي سمعتها نجوى من ابنتها. أصيبت الشابة الجميلة وهي في غرفتها في منطقة الجعيتاوي سقط عليها «برطاش» الباب والنافذة وزحفت نحو الباب الخارجي لتطلب النجدة.على الفور انطفأت عينها وانكسر حنكها وأصيبت بنزيف دماغي. نقلت الى مستشفى الجامعة الأميركية لكن قلبها توقف في هذه الأثناء وريثما أعيد إسعافها وإحياء القلب كان الدماغ قد تأثر نتيجة عدم وصول الأوكسجين إليه.»هنا انتهت قصة لارا بحسب قول والدتها نجوى. 40 عاماً قضتها الصبية تجاهد لتقف على رجليها انتهت بلحظة».
شهران بقيت في المستشفى تخضع لعناية طبية وبدأ الأطباء يجرّعون والدتها الحقيقة المرة شيئاً فشيئاً. لا أمل يرجى من حالتها. ثقبت قصبتها الهوائية لتتنفس من جهاز عبرها وزودت بنربيش لإطعامها مباشرة في المعدة ونقلت الى مركز بحنس الطبي. رغم معرفتها بالحقيقة لم تستوعب والدتها الأمر وما زالت حتى اليوم تظنه فيلماً سيحمل نهاية سعيدة. لكنها تعرف في قرارة نفسها أن ابنتها رحلت الى عالم مواز. «تركوها لنا كومة عظام، في غيبوبة تامة، تفتح عينيها لكنها لا ترى وتدمع أحياناً. وحدها صلة الأمومة تجعلني أحس فيها وتجعلها تحس فيّ فتغرق أكثر في سريرها وكأنها تبحث عن ضمة. أزورها في عطلة نهاية الأسبوع وامضي يومين معها أداعب شعرها اتحدث معها أخبرها يومياتي هي التي كانت ابنتي ورفيقتي في البيت ومؤنسة أيامي بعد زواج أخيها».
لا تنكر الأم أفكاراً تمر في رأسها أحياناً تجعلها تتمنى لو تتخلص لارا من عذابها لكنها في الوقت ذاته بالكاد يمكنها انتظار نهاية الأسبوع لتزورها وتقبلها وتشمها كما تقول ولتضع رأسها على صدرها لتتأكد أنها لا تزال تتنفس. وما يواسيها ان ابنتها غير واعية على نفسها ولا تشعر بالألم.
حياة نجوى التي انقلبت راساً على عقب تسطرها أكثر من معاناة واحدة فكأن ما حدث لوحيدتها لا يكفي ليأتي معه عذاب من نوع آخر وهو تخلي الجميع عنها. «الإنسانية مفقودة تماماً، لا أحد سأل عنا من نواب او وزراء او إكليروس، لا مسؤولين طرقوا بابنا ليعرفوا قصتنا او ماذا حل بهذه المصابة بعد ثلاث سنوات. إهمال تام وضمير مفقود. هذا ما يحز في نفسي بقدر إصابة ابنتي. أنا في بيتي وبلدي لم يسأل علي أحد. اين الأمان والحماية والرعاية التي يجب أن تؤمنها لي دولتي. عمرك ما ترجعي هذا شعارهم».
وحدها مؤسسة الإمام الصدر وقفت الى جانب العائلة مادياً وتكفلت بتكاليف العلاج الى جانب بعض المؤسسات ومن جهته بنك عودة الذي كانت لارا موظفة فيه أكمل تسديد راتبها حتى اليوم. اما الوالدة نجوى فعزاؤها أنها لا تزال في عملها لتتمكن من الاستمرار مادياً. نقمتها كبيرة تكاد تفوق الألم والحزن ولكن من يسأل عن حزن الضحايا بعد؟
حياة في العتمة
كارمن الخوري صايغ السيدة الجميلة التي كانت تهوى الحياة والأناقة والجمال خسرت في لحظة بصرها حين اصيبت في منزلها إصابة مباشرة تضرر معها العصب البصري في عينيها الاثنتين. تغيرت حالها وانتقلت من الضوء الى الظلمة لكنها ما انهارت ولا استسلمت أصرت على إكمال حياتها كما كانت قبل الانفجار المشؤوم.
رغم صعوبة حالتها لم تفقد كارمن الأمل وما زالت تبحث عن علاج جديد وتتواصل مع مراكز أبحاث عالمية علها تجد اكتشافاً جديداً يعيد إليها ما فقدته. تتابع حياتها في بيتها بإصرار بطولي وبشكل شبه طبيعي، لا تقبل مساعدة من أحد حتى من أقرب الناس إليها وتصر على إنجاز الأمور التي كانت تنجزها سابقاً في بيتها وعلى الاهتمام بنفسها. في هذا تجد عزاء وقوة ولو فقدت اهتمامها لربما انهارت وخسرت مرتين وفق ما تقول شقيقتها لورا الخوري العضو في إحدى لجان أهالي الضحايا والجرحى.
لكن ما يحزّ في نفس كارمن ليس الإصابة الجسدية بل تداعياتها المعنوية فهي لم تر ابنتها عروساً، وقفت الى جانبها، ساندتها لكنها لم تستطع رؤية ثوبها ووجهها وتسريحتها وإن أحست بفرحتها. وحين أنجبت ابنتها طفلتها الأولى لم ترها بعينيها رأتها بقلبها. الى ذاكرة الأمس البعيد تعود كارمن لتكمل حياتها وربما لتنسى الأمس القريب الذي يحمل تاريخ 4 آب.