كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
حقّ المواطن على دولته أن تحميه. لكن، ما يحصل في بلادِنا، أن الجميع باتوا يستقوون- بأشكال وأدوات عدّة – على ابن البلد وإذا تذمر يُقال: يا له من عنصري! الحقّ – يا عالم – يفترض أن يكون سيفاً قاطعاً لكن هنا الحقّ مطاط حيث اللبن يمكن أن يكون لونه أسود والكاكاو أصفر والبحر أحمر والحدود مشرّعة على أيّ شيء، على كل شيء، حتى على سرقة مال المواطنين الحلال مرّة من خلال «دولتنا» ومرّة من تخاذل «دولتنا». فماذا في حكايتنا الجديدة؟ ميرات، العاملة الإثيوبية، هربت من بيت مخدومتها بعد اربعة اشهر وعشرة أيام على بدء العقد بين الطرفين. حملت حقيبتها وغادرت والبلاغ في حقها سُجل في الأمن العام: ترك عمل لا فرار. هذا حقّها؟ ماذا عن حقّ من دفعت من اللحم الحيّ كلفة إستقدامها لحاجةٍ ماسّة إليها وليس لـ»الفخفخة»؟
هناك من سيقفز الآن من مكانه ويقول: عنصريون. من يجرؤ أن يطالب بحقّ اللبناني في ملف العاملات المنزليات هو – بنظر كثيرين – عنصري. فلنتفّق على شيء. هناك عنصريون وهناك غير عنصريين لكن يجب – تحت هذا العنوان – ألّا يغيّب ملف مفتوح في لبنان ورشق أولاد البلد بالحجارة بحجة أنهم الأكثر قوّة. لا، لم يعد الأمر كذلك أبداً.
فلنبدأ من قصّة حقيقية. من مثل حيّ. إحداهنّ تحتاج الى عاملة منزلية ليس «للزنطرة» و»الفخفخة» بل لحاجةٍ ماسّة. تينا، العاملة الإثيوبية التي كانت تدير البيت بحبّ – كما بيتها – إضطرّت بعد ثمانية أعوام ونيف من مكوثها في لبنان للعودة على عجل الى بلادها. والدتها توفيت وابنها بحاجة أيضا إليها. ودّعها أهل البيت بدموعٍ وجلبوا إثيوبية متوافرة، البيت الذي طلب إثنتين تبيّن له أنه لن يكون قادراً على سداد إلا أجرة واحدة، فأعادها الى المكتب. هذا ما قالته صاحبة المكتب لمن سألتها عنها وصدقتها. صحّ؟ خطأ؟ لا نضع في ذمتنا.
فرار ثم إبلاغ
القضية لم تبدأ بعد. إسم العاملة الإثيوبية الجديدة: Takebow Miret Ashenap وقالت إنها متزوجة ولديها طفل عمره عامان. صدقتها ربة البيت. ظنتها مثل تينا. لم تكن تعرف شيئاً. علمتها. أربعة أشهر وعشرة أيام أنجزت لها في خلالها أوراقها القانونية: الفحوصات المخبرية وإجازة العمل والإقامة. وكانت تدفع لها راتبها مقدماً إعتقاداً منها ان عائلتها تكون بحاجة الى المال في الفترة الأولى. هاتفها كان باستمرار في يدها، تستخدم فيه واتساب رقم زوجها الإثيوبي. هذا حقٌ لها. كررت ربة البيت ذلك مرات أمام كل من قال لها: لا تدعيها تتكلم كما يحلو لها.
ماذا بعد؟
قبل أسبوعين من مغادرتها زارتها إبنة خالتها (هذا ما عرّفت به عنها). كانت إثيوبية «مستشقرة» تشبه اللواتي يقفن على مستديرة الدورة في الليالي. سألتها ربة البيت اين تشتغل فأجابتها: في الأشرفيه لدى شخصين مسنين. سألتها أين في الأشرفيه. قالت: لا أعرف كيف أدلك. لعب الفار في صدرها لكنها نظرت الى مساعدتها المنزلية فرأتها تبدو – الى حدّ ما – بريئة فتخلّت عن الأفكار السود. وذات يوم إرتدت ثيابها وقالت لها: المكنسة إنكسرت عصاها وفي أسفل المنزل محل: سأشتري واحدة وأعود. صدقتها. خرجت ولم تعد. إتصلت بالمكتب فقالت لها صاحبته: ثمة شبكة تهرّب الإثيوبيات في لبنان. وأنبتها كيف سمحت لها باستخدام الهاتف. والحدود أقفلت منذ ثلاثة أسابيع وما عادت تصل خادمات جديدات لذلك تزايد الطلب عليهن. إنتهى دور مكتب الإستخدام عند هذا الحدّ. ذهبت الى الأمن العام. هناك وجدت عشرات الإثيوبيات سألتهنّ: لماذا تهرب إثيوبية برأيكنّ؟ أجابتها واحدة: لتعمل مدام على الساعة. الأمر واضح.
في مكتب الأمن العام عناصر إناث يعملن. وقفت أمام إحداهنّ ترتدي لباسها الرسمي. أظافرها طويلة مطلية باللون الأزرق. سجلت الشكوى: ترك عمل. لم تسألها أي سؤال. لم تسألها إذا كانت قد سددت راتبها أو إذا كانت العاملة سرقت شيئاً أو… أو… وحين قالت لها: إصعدي الى الطبقة الثالثة، الى مكتب التحقيقات، سألتها عن مآل الشكوى. هل ستنتهي في الدرج؟ نظرت إليها شذراً ولم تجب. كررت عليها السؤال فأجابتها: هيدا سؤال لا يُسأل مدام.
صعدت الى مكتب التحقيقات. إنتظرت نحو ساعتين. وفي النهاية إستدعاها عنصر مهذب وقال لها: أرسلنا إسمها الى المطار والحدود البرية. إذهبي الآن وارجعي بعد شهرين. قالت له باحترام: سيدي لا ترسلوا إسمها الى المعابر الحدودية بل توجهوا الى مستديرة الدورة وقد تجدونها هناك. إبتسم لها. عادت الى البيت. حاولت أن تدقّ على الواتساب الخاص بها فلم تجب. هو مقفل. إتصلت بالرقم وهو إثيوبي فأجاب رجل. هو زوجها على الأرجح. سألته بالإنكليزية: اين ميرات؟ فأجاب: لا اعرف… ثم وضع لها «بلوك». بحثت بين أمتعة الخادمة عن دليل، عن إشارة، عن ذيل تبدأ البحث منه. فوجدت ورقة مكتوب عليها ارقام عدة. سجلتها على هاتفها: ميرات 1، ميرات2، 3، 4، 5… وبعد ثلاثة ايام رأت صورة لها على خدمة Imo على الرقم المسجل: ميرات 3. فتحت العاملة رقماً جديداً لها. وضعت الرقم على true caller فظهر إسم: NIGATU MITIKU. بحثت عن صاحب الإسم على الفيسبوك فظهرت صورة زوجها على البروفايل أما على صورة الغلاف فظهرت صورة جديدة للعاملة الأجنبية «مستشقرة». نعم بدت قد لونت شعرها وتسكن في غرفة سفلية، تحت درج، فيها شباك علوي. عاملتها الأجنبية بدأت عملها في لبنان. فهل تكلمها على «إيمو»؟ هل تنتظر؟ هل تبلغ الأمن العام؟ هل تبلغ المكتب؟ الجميع سجلوا المغادرة وانتهى عملهم أما هي فبدأ عملها. لا جواز سفر معها. لا اوراق ثبوتية وقانونية. فلماذا لا يوقف الأمن العام العاملات الأجنبيات اللواتي «يكزدرن» على الطرقات وفي الليالي الملاح؟ لماذا حين تفرّ عاملة تصبح بالنسبة إليهم مثل «فصّ ملح وذاب» علماً انها تغادر لتعمل على الساعة؟
تدريب ثم هروب
كاسترو عبدالله، أنشأ نقابة في العام 2015 لانتزاع حقوق عاملات المنازل في لبنان، فهل يعرف شيئاً عن ظاهرة فرارهن المتجددة؟ يجيب «الأزمة الإقتصادية في البلاد جعلتهن لا يتركن بل يُترّكن العمل. إنهن يجبرن على ترك المنزل الذي يعملن فيه» ويبدأ في سرد خبريات نظام الكفالة والتعسف في استخدامهن وعدم سداد اجورهن و… ويتكلم عن 300 شكوى في حوزته، 90 في المئة منها من عاملات لم تدفع اجورهن. صحيح ذلك. هناك لبنانيون يتعسفون مع أجنبيات ومع لبنانيات أيضا. لكن ماذا عن ظاهرة الفرار المتزايدة؟ يجيب: «عدّة النصب تبدأ من مكتب الإستخدام نفسه. عدد العاملات الأجنبيات اللواتي يأتين أقل بكثير من قبل والحاجيات كبيرة. لذلك تنشط شبكة مافياوية تعمل على تهريبهنّ. يتابع: هناك قنصل لبناني فتح مكتب إستخدام أيضاً، يقول للعاملات اللواتي ياتين ستبدأنّ العمل بمئتي دولار لكن بعد أشهر ستتحررنّ وتتقاضين أكثر. وإذا عملتنّ بالساعة ستتقاضين أضعافاً. هؤلاء الفتيات يصلن تحت هذا العنوان. يتدربن قليلا ويهربن».
كاسترو عبدالله النقيب الذي يدافع عن العاملات الأجنبيات هربت أيضا العاملة في منزله ويقول «كنا نخشى أن تزعل. كنا نراعيها أكثر مما نراعي أنفسنا، لكنها غادرت وتركت لنا رسالة: أشكركم وأحبكم واقدركم لكني بحاجة أن اتقاضى اكثر. وقد اخذت معي حلق ذهب (هو حلق إبنة كاسترو الصغيرة) لأنني قد أحتاج الى أن أبيعه. أعذروني».
أين يذهبن؟ يجيب: «هناك «موديل» (شكل) جديد من الفرار. ثمة مكاتب إستخدام كثيرة بدّلت طبيعة عملها في الآونة الأخيرة. إنها تساعدهن على الفرار وتعطيهن معاشات عالية مقابل العمل على الساعة. وحالياً، في هذا الصيف، هناك حاجة كبيرة إليهن مع مجيء المغتربين الذين يحتاجون الى من يساعدهم طوال شهر أو شهرين ويدفعون لهن 400 دولار شهرياً. كما هناك ربّات بيوت كثيرات يتعاقدن على الساعة. مكاتب الإستخدام تؤمن لهؤلاء ما يحتجن إليه من خلال مساعدة العاملات المنزليات اللواتي سبق وجلبتهنّ لصالح بيوتات معينة. الفرار زاد كثيراً بدءاً من أول شهر تموز. وبعد شهر أيلول ستقلّ الحاجة إليهن وعندها سيتورطن بأعمال أخرى».
هذا معناه أننا بعد شهر أيلول سنجد «ميرات» على مستديرة الدوره؟ من يدري. مكاتب الإستخدام تسهّل عملهن. ومن يقف اليوم أمام باب فندق صغير سيجد عشرات العاملات الأجنبيات يدخلن إليه يومياً. إنهن يعملن على جبهات عديدة. وفي هذا الإطار يعلق كاسترو عبدالله: «أقفل وزير العمل أخيراً مكتبين بشبهة تسهيل تهريب العاملات الأجنبيات».
إستقدمتم عاملة أجنبية؟ إنتبهوا إليها بعد مرور أربعة أشهر على مجيئها لأن مكتب الإستخدام يكون قد رفع عنه – مع مرور ثلاثة أشهر – المسؤولية.
تراجع عدد العمال
الحاجات كثيرة والعدد قليل والفجور كثير. أعداد العمال العرب والأجانب الذين كانوا يأتون للعمل في لبنان تراجعت بين عامي 2019 و2020 بحوالى 48,177 سمة عمل أي بنسبة 83 في المئة، بحسب الدولية للمعلومات. كان في لبنان ايام زمان، في 2019، 247 ألف عامل وعاملة أجنبية شرعيين وكان هناك نحو مئة ألف غير شرعيين. وما أصبحت عليه الحال ان أكثر من مئة ألف من هؤلاء غادروا أما من دخلوا بسمات جديدة في 2020 فلم يزد عن 10 آلاف. واستمرّ نزول الرقم في الأعوام الثلاثة الأخيرة لذلك الحاجة الى هؤلاء كبيرة. ومن كان يتقاضى 200 دولار أصبحت عينه على الرقم ضرب إثنين وثلاثة. والشبكات المافياوية تعمل اليوم بجدّ وجهد على سدّ هذه الثغرة من خلال تسهيل هروبهم. ومن يدفع الثمن عمن يصرّون على أن يكون التعامل في هذا الملف قانونياً.
ثمة مشكلة اليوم «قانونية» في استخدام العاملات الإثيوبيات يتحدث عنها كاسترو عبدالله: «حاول وزير العمل محمد كباره الذي استلم الوزارة بين العامين 2016 و2019 إعداد إتفاق بين لبنان وإثيوبيا حول إستقدام العاملات الإثيوبيات. وأتت بعد ذلك كورونا. ومنذ ثلاثة أشهر وقع وزير العمل إتفاقية جديدة في هذا الإطار. وأصبحت العاملات يصلن مباشرة من أديس أبابا – من دون المرور في السودان – لكن حدثت حملة هناك عنوانها أن لبنان لا يطبق الإتفاقية 189 التي تتحدث عن العمل اللائق فأعدّ إتفاقاً يضمن ذلك ويكون تعاملا بالمثل. لبنان موجود الآن على لائحة الإتجار بالبشر لذلك يريدون إرسال بعثة إتصال مباشرة للتأكد من تطبيق المعايير الدولية. في المحصلة، مسائل كثيرة تجعل هذا الملف شائكاً وعدد العاملات الإثيوبيات وحدهن نزل من 250 ألفاً عام 2019 الى أقل من 100 ألف اليوم.
معلومات كثيرة تتطلب حلولاً، لكننا في بلد لا دولة فيه، ومشاكلها لا تعدّ ولا تحصى. والمواطنون المساكين يدفعون من جديد ثمن الإهمال في الملف. العاملة ميرات وصلت الى لبنان وأصبحت تعمل على كيفها. الأمن العام أخذ علماً وخبراً بذلك. وانتهى ملفها عند هذا الحدّ. من هنا تبدأ المشكلة. وجود العاملات الأجنبيات ليس دائماً من مظاهر تدليل الذات والتشاوف لكنهن، أحياناً شرّ لا بُدّ منه في بيوت كثيرة. فهل كل ما يمكننا أن نقوله لمن أكلوا الضرب: نعيماً!
تبقى معلومة للأمن العام. العاملة ميرات تستخدم الرقم الهاتفي الإثيوبي: 00251916564728. فهل سيُقتفى أثرها؟ وهل يهم ذلك سفارة إثيوبيا في لبنان أم مهمتها فقط تسهيل عودة من يريد منهن باستصدار جواز سفر جديد حين تحلو لهنّ المغادرة؟ وهل تسأل العائلة التي تدخل عاملة أجنبية الى بيتها عن اوراقها الثبوتية؟