كتبت كلير شكر في “نداء الوطن”:
لا شيء يجمع بين القوى السياسية، إلا توصيف جبران باسيل: رجل القفزات البهلوانيّة!
فجأة قرر العودة إلى بيت طاعة تفاهم مار مخايل بعدما سجّل على حليفه سيلاً من التحفّظات على خلفية عدم مجاراته في بناء الدولة وهو الذي امتلك ليلة القبض على رئاسة الجمهورية، أي في 31 تشرين الأول 2016، أختام تحالفات عابرة للخصومات والاصطفافات وكان بإمكانه أن يوظّف بعضاً منها، لو أراد، لمصلحة أقلّه ترميم الدولة، لكنه فضّل مراكمة النفوذ والسلطة على أي هدف آخر.
فجأة قرر تعويم ترشيح رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية بعدما أثقله بالإنتقادات التي كانت تهدف فقط إلى تعريته من القدرة على الوصول إلى قصر بعبدا، وبعدما أزاحت الخماسية في اجتماعها الأخير في الدوحة المبادرة الفرنسية، وراح السعوديون يقولون في مجالسهم ما كانوا يحرصون على عدم البوح به في السابق جهاراً: لا حياة للمقايضة المطروحة من جانب الفرنسيين… وإلّا فليدبّر اللبنانيون شؤونهم بأنفسهم.
وحين يتبيّن أنّ رئيس «التيار الوطني الحر» لم يقفز فقط من ضفّة جهاد أزعور، إلى ضفّة فرنجية تحت عنوان تحصيل اللامركزية والصندوق الائتماني، بل ترك ممرات خلفية للتفاوض على أسماء أخرى ومع أطراف أخرى، يصير سلوكه مفهوماً: اللعب على كلّ الحبال.
هكذا تظهر الوقائع أنّ الرجل فتح أبواب التفاوض من جديد مع «حزب الله» حين بدت له حظوظ قائد الجيش جوزاف عون مرتفعة، فصار شطبه هدفاً لا بدّ منه من خلال العمل على كسب الوقت لحين تقاعد الأخير، من دون اهمال احتمال أن تضطره الظروف إلى تأييد فرنجية. في الوقت عينه، أعاد تنشيط بعض قنوات التفاوض مع جهات أخرى في حال خرج القطب الزغرتاوي من السباق نهائياً ولم يعد. اذاً، يترك لنفسه حدائق خلفية تتيح له عبور المرحلة بأقل الأكلاف الممكنة.
ويتردد أنّ مفاوضاته مع «حزب الله» تسير بوتيرة سريعة، ويفترض أن يتقدّم خلال الأيام القليلة المقبلة بورقتَي عمل تعكسان رؤية «التيار» للامركزية الإدارية والصندوق الائتماني، فيما يبدي «حزب الله» انفتاحه على هذا النقاش ويسعى بطبيعة الحال للعمل على تحقيق مطالب باسيل لكي يضمّه إلى قافلة مؤيدي فرنجية.
وفق المطلعين فإنّ «حزب الله» يسعى لكي يبرم اتفاقاً مبدئياً مع باسيل قبل عودة الموفد الفرنسي جان – إيف لودريان إلى بيروت الشهر المقبل، لكي يؤسس «الحزب» لواقع جديد يعيد تثبيت ترشيح فرنجية وبدفع أقوى، بعدما تخلّى الفرنسيون عن مبادرتهم. والهدف هو بطبيعة الحال تأمين تحالف انتخابي لرئيس «تيار المردة» يجعل من ترشيحه أمراً واقعاً لا يمكن للدول المعنية، والخماسية تحديداً تجاوزه.
ولكن هل يكفي تأمين أغلبية نيابية تتيح انتخاب فرنجية رئيساً لكي يدخل القصر؟
حتى الآن، لا تبدو الأجواء الدولية والاقليمية مؤاتية. وما يتسرّب من لقاءات لبنانيين مع مسؤولين أميركيين، يشي بأنّ الرياح الخارجية لا تجاري سفن رئيس «تيار المردة»، إن لم نقل تعاكسه. ومع ذلك، لم يقدّم الثنائي الشيعي أي إشارة جدية قد تعبّر عن إعادة تموضعه باتجاه خيارات أخرى، ولا يزال متمسكاً بترشيح حليفه ويخوض معركة ايصاله بهدوء وروية. حتى اللحظة يتصرّف الثنائي على قاعدة تأمين فرض فرنجية كأمر واقع ومن بعده لكل حادث حديث. ولهذا يراهن على حركة الديبلوماسية الفرنسية رغم تراجعها.
بهذا المعنى، يعوّل الثنائي على المبادرة الحوارية التي طرحها لودريان في زيارته الأخيرة بعدما حذّر اللبنانيين من أن مسعاه هو فرصتهم الأخيرة لإنجاز الاستحقاق الرئاسي بأقل الأضرار الممكنة. ولكن تبيّن أنّها في الواقع فرصة لودريان الأخيرة للتوصل إلى حلّ للأزمة اللبنانية وفق مندرجات بيان الخماسية الأخير المرفق بتحذيرات دولية بإجراءت عقابية قد تلحق بالمعرقلين.
اذ يفيد المطلعون على الاتصالات الفرنسية – الأميركية أنّ الإدارة الفرنسية طلبت من الإدارة الأميركية أن يرمي لودريان حجره الأخير في البركة اللبنانية بعدما وصلت رسالة الخماسية «الحامية»، ويستعد الموفد الفرنسي لاختبار مفاعيل هذه الرسالة لدى المسؤولين اللبنانيين، على أمل كسر الاصطفافات للاتفاق على مرشح يعيد انتخابه انتظام المؤسسات الدستورية.
حسابات خاطئة؟
ويقول المطلعون إنّ تعويل الثنائي على حركة لودريان، قد يولّد حسابات خاطئة ذلك لأنّ بيان الخماسية الأخير وضع قواعد جديدة لتعاطي هذه الدول مع الملف اللبناني، وهي لا تبدو، على عكس مفردات بيانها، مستعجلة لانجاز الاستحقاق الرئاسي وفق شروط الآخرين أي الثنائي، وتراهن على الوقت لتحسين الشروط وإنجاز الاستحقاق وفق شروط الخماسية التي استعاد فيها ثنائي واشنطن – الرياض المبادرة، بعدما تركت في المرحلة الماضية لباريس.
ويشير هؤلاء إلى أنّ المعطيات المتوافرة في الوقت الراهن، تظهر أنّ الفريقين لجآ إلى لعبة عضّ الأصابع ويركنان إلى الوقت لفرض معطيات جديدة من شأنها أن تحسن شروط التفاوض كل من موقعه. وبهذا المعنى يسابق «الحزب» الوقت لكي يسحب من باسيل اتفاقاً أولياً، يجعله صاحب اليد الطولى في الاستحقاق، فيما الخصوم يعتقدون أنّ توسّع الانهيار قد يدفع الثنائي إلى مراجعة حساباته لفتح باب التفاوض حول مرشح ثالث.
ويلفتون إلى أنّ الضغوط التي مارسها الكونغرس على الإدارة الأميركية ظهرت نتائجها في اجتماع الخماسية، حيث كانت الغلبة لمنطق اللجوء إلى الإجراءات العملانية بعدما أخذت الديبلوماسية فرصتها في المحاولات الملطّفة والتي لم تجدِ، وفق ما ينقل لبنانيون عن مسؤولين أميركيين يكشفون أنّ البيت الأبيض حصل على وعود من رئيس مجلس النواب بفتح أبواب البرلمان لإجراء دورات متتالية تؤدي إلى انتخاب رئيس، لكنه لم يفعلها. ولهذا اتسمت نبرة الأميركيين في الفترة الأخيرة بالتشدد والتصلب.
بالنتيجة، سيكون شهر أيلول مفصلياً ولو أنّه لن ينتهي حكماً إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، لكنّه يشكّل محطة بارزة في مسار الاستحقاق اذا ما فعلها باسيل وأعلن تأييده لفرنجية ليقف الأخير بذلك على عتبة قصر بعبدا كـ»رئيس غير منتخب»، وليفرض هذا التطور نفسه على جدول أعمال لودريان، ومن خلفه الخماسية، فيما يُفترض أن تظهر ترجمة بيانها الأخير الشديد اللهجة، خلال المرحلة المقبلة.
فهل يجرؤ باسيل على معاكسة الرياح الاقليمية؟ أم أنّ جلّ ما يفعله هو حرق الوقت لا أكثر؟ وهل يمكن لأي اتفاق محلي تجاوز الاعتبارات الخارجية في ظلّ الانهيار الحاصل والذي يحكم بالموت السريري على أي عهد؟