كتبت لوسي بارسخيان في “نداء الوطن”:
لفّت سحابة تلوّث سهل البقاع في الأيام الماضية، تبيّن أنّها ناتجة عن حريقين منفصلين، الأوّل شبّ في معمل فرز النفايات في جب جنين، وتمّ إخماده خلال ساعات، والثاني في مكبّ نفايات عشوائي في بلدة قب الياس، استغرقت عملية إخماده أياماً، قبل أن تتمكّن البلدية من السيطرة عليه ابتداءً من ظهر يوم أمس. الحريقان طوّقا عملياً، إلا أنّ المشكلة الفعلية لم تحلّ، ولا سيّما بالنسبة لبلدة قب الياس. فالنيران التي اشتعلت في مكبّ البلدة العشوائي فضحت جريمة بيئية مستمرّة في هذه البلدة منذ سنتين، أي منذ أن أعيد تفعيل مكبّها العشوائي مجدّداً، عندما تخلّى متعهّد معمل فرز النفايات في بلدة برّ الياس عن التزام تشغيله.
ومعمل فرز النفايات في برّ الياس هو من بين مواقع الفرز الأحدث في سهل البقاع. حيث تمّ تلزيمه قبل دخول لبنان في أزمته الإقتصادية. إلّا أنّه، بعد ملايين الدولارات التي أنفقت على تجهيزه، لم يُشغّل سوى لثلاثة أعوام تقريباً، أمّن خلالها حلاً مستداماً لنفايات ثلاث من أكبر القرى البقاعية، أي المرج، برّ الياس، وقب الياس.
منذ بداية الأزمة، اصطدم العقد الموقّع مع مشغّل المعمل بانهيار قيمة العملة اللبنانية، بحيث لم يعد حجم الالتزام يغطّي نفقات المعالجة. وعلى الرغم من النقاشات التي دارت لإيجاد مخارج لهذه المعضلة، بدت الحلول المقترحة أكبر من إمكانيات البلديات، التي لم تتمكّن من وضع أزمتها على جدول أولويات السلطة المركزية العائمة في مشاكلها. وعليه تخلّى المتعهّد عن العقد، مخلّفاً معمل فرز النفايات في أيدي من عبثوا بتجهيزاته ومنشآته، بحيث بات نقل النفايات إلى المعمل مجدّداً، حتى لو وفّرت له البلديات المستفيدة الدعم اللازم، مستحيلاً، من دون صيانة بعض تجهيزاته، التي يعوّل المعنيون منذ أشهر على أن تؤمّن الجهات الدولية الداعمة التمويل اللازم لها.
منذ سنتين تقريباً عادت بلدية قب الياس بنفاياتها إلى مكبّها القديم، وقد بات مع تزايد أعداد النازحين السوريين يستضيف يومياً أكثر من 40 طناً من النفايات، ترمى عشوائياً في المكبّ من دون أي معالجة. وكان هذا الخيار الأقل مرارة بالنسبة للبلدية التي يؤكّد رئيسها جهاد المعلم أن لا حل آخر سوى ترك النفايات سارحة في أحياء البلدة. إلا أنّ هذا الحلّ حوّل المكبّ مع ارتفاع درجات الحرارة قنبلة موقوتة، خطر اشتعال النيران فيه وارد عند هبوب كل نسمة، بينما إخمادها يستغرق جهوداً مضنية، وتكاليف باهظة تترتّب على ميزانية متهالكة لبلديتها.
وعليه، فإنّ الحريق الذي شبّ في مكبّ قب الياس لم يكن الأوّل لهذا الموسم. وبعدما تمكّنت البلدية من تطويق حريق سابق فيه، فإنّ سحابة الدخان التي امتدّت منه هذه المرة إلى القرى المجاورة في البقاع الغربي، تعانقت مع آثار التلوث الذي نتج عن حريق آخر شبّ في معمل فرز النفايات في جب جنين، ليكشف حريقا الموقعين عن التداعيات السيئة جداً التي باتت تترتّب على استمرار حال التدهور في مؤسسات الدولة وإمكانياتها والذي امتدّ على ما يبدو الى البلديات، إلى حدّ بات يهّدد معه صحة الناس وحقّهم ببيئة سليمة.
ففي جب جنين أيضاً أخمدت النيران التي اشتعلت عمداً على ما يذكر المطلعون، بخلفيات سياسية. إلا أنّه رغم استعادة معمل الفرز نشاطه، فإنّ إنتاجيّته متوقفة على ساعات تأمين الكهرباء. ورغم جهد اتّحاد بلديات البحيرة لإعادة تصحيح الواقع الشاذّ الذي خلّفه المتعهّد السابق للمعمل، من خلال تكديسه كميات النفايات غير المعالجة فيه، فإنه لا يزال يصطدم حتى الآن بساعات تقنين الكهرباء التي لا تسمح بإنتاجية تامة في المعمل، وخصوصاً في ظل الصعوبة التي تواجهها بلديات الإتحاد بتأمين كميات المازوت اللازمة لتشغيل مولده الخاص.
هذا في وقت بات انهيار قيمة الليرة اللبنانية والذي لا يوازيه تعديل في رسوم البلديات، يلوّح بأزمة نفايات عامة، وجد بعض البلديات حلولاً آنية لها، من خلال تحويل معظم ميزانياتها للمّ نفاياتها ومعالجتها، وكأنها بذلك تحاول أن تؤجّل انفجار ملف النفايات بوجه مجالسها الممدّد لها.