كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
السياح في البلد مثل رذاذ المطر، مثل حبات الرمال الذهبية، المفلوشة على أجمل الشواطئ اللبنانية. البلد لا يسعهم. الفرح أيضاً. حكومتنا تغازل نفسها مغرورة، متعالية، متغطرسة ومتباهية بثورة سياحية إصطناعية. عدد السياح الذين أتوا- وما زالوا يأتون يوميا إلى لبنان- أكثر من التوقعات. إنهم يسوحون في كل مكان لكن، ماذا عن سياحة الإغتراب في بيروت «اللي عمتبكي مكسور خاطرها»؟
…وكأن بيروت مدينة ملعونة، بنيت على رمال متحركة، ما إن تستيقظ من كبوة حتى تسقط في أخرى. وكأن بيروت مثلها مثل مدينتي الزنا في إيطاليا «بومبي» و»قوم لوط» في الأردن، لا يحق لها أن تعيش. البارحة نزلنا إليها لنراها عن قرب. نزلنا إليها عند غروب الشمس لنرى إذا كانت تستمتع مثل كل المدن الأخرى بالثورة السياحية وليتنا لم نفعل.
بيروت تستمرّ للأسف قفرة نفرة، لا أنس فيها فقط جنّ تزعجهم عدسة مصوّر وعين صحافي. فماذا عن بيروت في صيف 2023 الموعود؟ رفيق الحريري كان يحلو له أن يتمشى في حنايا بيروت ويحلم بمدينة عالمية. هنا قتل، إستشهد، وكأن مع موته ماتت المدينة. طفل يتكلم الإنكليزية يلعب في دائرة ملطخة باللون الأحمر أمام فندق لوغراي. الفندق أقفل أبوابه هو أيضاً الى أمد. يدعس على عبارة محفورة على الرصيف: نعم، الصحافة الحرّة هي السلطة الأولى. لا يعرف هو معنى العبارة المكتوبة لكنه يضحك ويهرول ويلعب ويقفز في مكانه. قسم جبران موجود: نقسم بالله العظيم مسلمين ومسيحيين أن نبقى موحدين الى أبد الآبدين. صامد يبدو القسم.
الصحافة ممنوعة
هنا، دارت التظاهرات وتتالت الثورات وحدث صخب وكثير كثير من الحقد. صحيح، الشعب اللبناني يفترض أن يثور لا أن «يبلع الموس»- كما اليوم- ويغض الطرف… لكن، هل قطع أرزاق الناس ثورة تبدأ بكبسة زرّ وتنتهي بكبسة زرّ؟ صدقاً، ما عاد الناس يثقون بشيء. المتاريس الرسمية ما زالت تعترض السبيل. ندخل الى شارع المعرض، الى جنبات البرلمان، برلمان الشعب يفترض، فيوقفنا عنصر أمني: ماذا تريدون؟ نرغب في التجول في شارع المعرض، في رئة بيروت، في مدينة يفترض أنها سياحية بامتياز. يتصلّ: سائلاً مرجعيته: ألو ألو… حاجز البلدية… نداء الوطن تريد الدخول؟ ندخل ونبدأ في التقاط التفاصيل قبل أن نسمع من يصرخ فينا: ماذا تفعلان؟ عنصران أمنيان يأمران: ممنوع التصوير. تحتاجان الى إذن. ممن؟ تأتون الى البرلمان في ساعات الدوام – بين التاسعة صباحاً والواحدة ظهراً – وتسجلان طلبكما وإذا وافق العميد تلتقطان الصور. إذن؟ في رئة بيروت؟ في زمن السياحة الموعودة؟ إنها أوامر ونقطة على السطر. يعود المصوّر أدراجه ونتابع نحن التجوال بلا عدسة تصوير. هنا شارع 62 حسن الأحدب. هنا كان مقهى etoile suits. هنا كان أيضا Hagan Dazs. وكان يا مكان في قديم الزمان. عبارات offices and shops for rent كثيرة. لكن، من يستأجر في منطقة مقفلة؟ إتصلنا بالشركة العقارية التي تضع اسمها على هكذا إعلانات JSK فقيل لنا: نتصل بكم لاحقاً. ننتظر. هنا كنيسة مارجرجس للروم الأرثوذكس في ساحة النجمة. هي مغلقة أمام الزوار والمؤمنين. نتابع في التفاصيل، لا أحد إلا نحن والحمام الزاجل وساعة العبد. لأول مرة ننظر إليها كثيراً ونقلق على توقيتها في هذا الزمن السيئ. نقف لنقرأ ما كتب تحتها، عن ميشال عبد الذي قدمها العام 1933، فيصرخ علينا عنصر أمني قائلا: ممنوع أخذ الملاحظات! ماذا؟ ممنوع ان نقرأ عن ساعة العبد؟ نضع القلم جانباً ونعود لنتابع لكنهم نادوا على «علوش». هو شاب وصل للتوّ على دراجة نارية. قالوا له: هل مسموح أن يتجول صحافي في شارع المعرض؟ أجاب علوش: بلا إذن لا. قلنا له: نريد أن نتمشى كمواطنين، أن نتفرج على وجع العاصمة، أن نرى إذا كانت السياحة قد مرّت من هنا. الإجابة أتت مجدداً حاسمة: الأوامر أوامر.
لا سياحة ولا من يحزنون
إستجبنا للأوامر ولو على مضض- حتى ولو كنا موقنين أن وسط بيروت لنا وليس لهم – وساحة النجمة لنا، وساعة العبد لنا، وشارع المعرض لنا… وهل هناك لزوم بعد لنسأل عن السياحة في وسط عاصمة ستّ الدنيا بيروت؟ نعبر شارع الجامع العمري رقم 58 متجهين صوب الحاجز الفوقاني للخروج من عاصمة يبدو أنها باتت محجوزة – بأمرِ الأستاذ وإرادة علوش- الى اجل غير مسمى.
على طريقنا، ننظر يمنة ويسرة. هرة شقراء، عمرها أشهر، تجلس في نصف شارع المعرض مطمئنة فلا أنس يزعجونها. بليس هاوس نسي مروحته خارجاً وهجره ناسه وأصحابه. بنك بيبلوس ما زالت آرمته معلقة. ثمة مطعم كان اسمه «تغاريد» هنا أيضاً… اللون البني الذي يسود المباني في الوسط ما زال وحده يضفي على المكان رونقاً. هي ملاحظات وتأملات سريعة قبل أن يجدد الحرس في المكان طردنا. وحده، علم الإتحاد البرلماني العربي، المعلق في إحدى طبقات المباني المطلة على شارع المعرض، يوحي بوجود حياة. هو جديد ما زال أبيض نظيفاً. من زمان وزمان لم نر الداون تاون يتنفس. توقف الزمان فيه عند الساعة الواحدة من يوم 14 شباط 2005.
المسارح أقفلت
«لتسقط سوليدير». «ليسقط النظام الطائفي». «سوليدير زبالة». «طفح الكيل». «الشعب قادم». «على دينتي الجميع». خربشات خربشات… نلقي التحية على العنصر الأمني الواقف عند الحاجز الذي خرجنا منه: يعطيك العافية. يهز رأسه نزولا. منهكٌ يبدو في الحرّ. نمرّ من أمام التياترو الكبير. أم كلثوم مرّت من هنا ومحمد عبد الوهاب ويوسف وهبي والأخطل الصغير. هنا في التياترو الكبير عُرض أوّل فيلم ناطق باللغة العربية «الوردة البيضاء» للموسيقار محمد عبد الوهاب. يا الله، كم كانت بيروت متألقة أيام زمان. اليوم، تبدلت أمور كثيرة. كانت المسارح عند كل زاوية ومفرق في الحمراء وفي الأسواق البيروتية العتيقة. بيروت التي عاشت أجندات ثقافية كثيرة باتت اليوم شاهدة على إقفال مسرح تلو الآخر. التايترو الكبير في الداون واحد منها وهناك مسرح بابل ومسرح البيكاديلي في الحمراء الأرستقراطي الذي كان قبلة نجوم العالم وكانت فيروز سيدته. حتى أحرف الإسم تساقطت في المكان. لا يزال كثيرون يتذكرون «هالة والملك» على هذه الخشبة الانيقة الفاخرة. بيروت كلها موجوعة معلقة على درب الموت. مسرح بابل أسدل هو أيضا ستارته. نعود لننظر الى جدران التياترو الكبير الشاهد على تتالي الثورات غير المنجبة على مرّ تاريخنا الحديث. المركبات تمر بسرعة في المكان. الناس في ميل وبيروتهم في ميل آخر. نمرّ الى جانب مبنى العازاريه، الذي شغلته راهبات العازاريه ذات يوم، وأصبح محجاً للفقراء من كل لبنان. مساحة العقار 8363 متراً مربعاً يضمّ سبعة مبانٍ بشكل مربع. جميلة هي هندسة هذا المعلم الذي لم يصمد فيه إلا البناء أما أهله فهجروه بنسبة 90 في المئة ولم يعودوا بعد. كان نقطة إرتكاز تجاري في قلب العاصمة فأصبح لوحاً دوّنت عليه مختلف الإحتجاجات، أكثر ما يلفتنا منها: لنصبح على وطن. والقوّة للناس. وعلى أحد مبانيه لا تزال عبارات تتكرر لصقاً: إنزل عالشارع يا شعبي. عن حقّك دافع يا شعبي. فلتفرغ المدارس ولتمتلئ الساحات. أنتم في السلطة نحن في كل مكان. الثوار كتبوا ما كتبوه وغادروا. الغروب يتسلل.
المدينة تتحول أكثر فأكثر الى مدينة أشباح. لا سياح ولا من يحزنون. بركات ترافل الوحيد الذي عاد الى المبنى. فالسفر حاجة ماسة الى كثيرين ليس للسياحة بل للرحيل. بائع العلكة، اللبناني العتيق، يحاول أن يتكل على نفسه ليعيش لكن ليس هناك من يشتري. علكة التشكليتس ثمنها 35 ألفاً والمارة توقفوا عن علكها.
لا ننوي أن نغادر. لا نريد. ننظر في كلِ الإتجاهات. ثمة سائح أتى على عجل قبل أن يتوجه الى ليالي الجميزة القريبة. نراه يلتقط صور السيلفي. هو وصل من يومين من ألمانيا وسيعود بعد أسبوع إليها. نشف ريقه فاشترى قنينة مياه من بائع على عربة حجز له مكاناً على قارعة الطريق. شربها دفعة واحدة ومشى. لا شارات سير تعمل علماً أن عبارة دونت على عمود قريب: مع كل إشارة سير فسحة أمل. نتذكر عبارة: لا تفقد الأمل، الأشياء الجميلة أحياناً تتأخر في القدوم. فهل نثق بذلك؟ بيروت إنقلبت مرات وتصدعت وتهدمت وقامت من الموت. فلماذا طال هذه المرة موتها؟ هل قتل السلطة أشدّ إيلاماً من تدخل الطبيعة؟ إنتقلنا الى الجميزة. شباب وشابات بدأوا يتوافدون. وكأننا في بلاد أخرى. وكأننا لسنا في بيروت. الجميزة ومارمخايل ماتتا أيضا وقامتا. فهل سيأتي يوم ينبض فيه قلب بيروت من جديد؟