جاء في “المركزية”:
فجأة سكتت الاصوات وانطفأ وهج الكاميرا في تلة الخياط. توقفت الحركة، لا برامج ولا نشرات أخبار… حتى الشيف أنطوان الذي بات الصديق الوفي للسيدات اللبنانيات وضيف المآدب المنزلية العامرة بوصفاته اضطر إلى الغياب عن جمهوره لما يقارب يومين… ففي أروقة التلفزيون الرسمي، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة المعروفة: الرواتب والأجور. ولأن الاحتجاج الكلامي وحده لا ينفع، رفع موظفو التلفزيون الرسمي سقف المواجهة إلى حد إعلان الاضراب المفتوح. غير أن هذا الأخير لم يصمد طويلا، حيث أن الموظفين عادوا يوم السبت إلى العمل، بشكل طبيعي رسميا، غداة عودة البث مساء الجمعة عبر شاشة الوطن.
في الشكل، بدا إضراب الموظفين في تلفزيون لبنان فصلا من فصول النضال في سبيل حقوقهم الطبيعية. لكنه في المضمون بدا ضربة تلقى ارتداداتها الشعب اللبناني أولا ووزير الاعلام في حكومة تصريف الأعمال زياد مكاري ثانيا. فالأول حرم من الشاشة الوطنية، الوحيدة التي تصل إلى كافة الفئات من دون أي بدائل مالية تذكر. وتجدر الاشارة في هذا المضمار إلى أن أهم ما في تلفزيون لبنان، بالنسبة إلى الجزء الأكبر من الناس، يكمن بالتأكيد في الأرشيف الغني الذي يدغدغ ذاكرتهم الفنية والوطنية بالوجوه التي صنعت يوما وهج لبنان ووجهه الثقافي والفني منذ عقود.
أما على مستوى وزارة الاعلام، فالأمور ليست بالسهولة التي تضفيها على الملف العودة السريعة للموظفين إلى مراكز عملهم. ذلك أن من الضرورة بمكان الاشارة إلى التوقيت الذي أتى فيه الاضراب. فهو حل بعد شهور على نجاح وزير الاعلام في انتزاع ورقة مهمة من جامعة الدول العربية: إعلان بيروت عاصمة للإعلام العربي لعام 2023، وذلك في عز واحدة من أكبر الأزمات التي عرفها لبنان في تاريخه الحديث.
أما على المستوى الداخلي للتلفزيون، فإن الاضراب أتى بعد شهور على تسلم الوزير مكاري شخصيا دفة إدارة التلفزيون في ظل غياب مجلس الادارة المولج هذه المهمة، على وقع عجز حكومة تصريف الأعمال عن المبادرة إلى أي نوع من أنواع التعيينات في غياب رئيس الجمهورية العتيد. ولكن أحدا لا يشك في أن وضع التلفزيون والبلاد لا يتحمل ترف انتظار التوافق السياسي على الرئيس الجديد، فكان أن تدخل مكاري شخصيا لفض إشكال رواتب الموظفين، وقد استحصل من مجلس الوزراء على سلفة خزينة تهدف أولا إلى مد المؤسسة الاعلامية الرسمية بجرعة حياة موقتة ريثما تعود عجلة المؤسسات والتعيينات إلى الدوران بشكل طبيعي.
وفي السياق، تؤكد مصادر متابعة للملف عبر “المركزية” أن الموظفين ونقابتهم كانوا على اطلاع بكل الخطوات التي كان مكاري يبادر إليها في سبيل حل المشكلة وتجنب السيناريوات التعطيلية، مع العلم أن بوصلة الموظفين الناقمين كان يجب أن تقودهم إلى وزارة المال، وليس وزارة الاعلام. ذلك أن مستحقاتهم كانت واقفة على كوع “المالية”، وليس “الاعلام” وإن كانت الأخيرة تلعب دور الوصاية على التلفزيون الرسمي. ولدى النقاش في أسباب ابعاد وزارة المال عن السجال ذي الطابع المالي أولا، فإن المصادر تعدد كثيرا من الأسباب من دون إغفال الجانب السياسي، حيث أن مواجهة مع وزير المال، بمن وما يمثل على المستوى السياسي، قد لا تكون سهلة، فيما لا أحد يشك في أن التفاوض يبقى ممكنا مع وزير الاعلام على اعتباره المعني الأول بشؤون وشجون التلفزيون. ولا تفوت المصادر نفسها فرصة التذكير بأن نقابة موظفي تلفزيون لبنان على دراية بأن مكاري سبق أن حقق كثيرا من مطالب الموظفين التي رفعوها خلال الاضراب، الذي عاد وفك بعد أقل من 24 ساعة على إعلان مكاري وقف البث بشكل موقت. وتشدد المصادر هنا على أن مكاري لم يقرر إقفال التلفزيون (وهذا أمر ليس من صلاحياته أصلا)، بل رمى إلى توفير المازوت المخصص للتلفزيون إلى حين عودة الموظفين إلى عملهم وبرامجهم الطبيعية، خصوصا في ظل الظروف المالية الصعبة التي تمر فيها الدولة.
ماذا تغير يوم السبت حتى عادت العجلات الاعلامية إلى الدوران فجأة؟ الأكيد أن اليومين الأخيرين حفلا بالاتصالات الكثيفة، بين مكاري ورئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر الذي كان الوزير كلفه حسب معلومات “المركزية” الدخول على الخط للإسهام في ايجاد الحلول. وعلمت “المركزية” أيضا أن تواصلا جرى يوم السبت بين الوزير ورئيسة نقابة الموظفين ميرنا الشدياق، قبل أن يتخذ الموظفون القرار الرسمي بتعليق الاضراب حتى إشعار آخر. إلا أن هذا لا ينفي المعلومات التي بلغت “المركزية” عن أن عددا منهم استقال من النقابة في ظل الازمة في إطار الاحتجاج على إدارة ملف المفاوضات مع الوزير. وقد ساهم جزء كبير من المعترضين في عودة البث اعتبارا من مساء الجمعة، أي بعد ساعات على قرار التوقف عن البث.
طوى تلفزيون لبنان إذا بعد جهد جهيد صفحة عمالية دفعت البعض إلى الحديث عن أنه يقترب من القفز في المجهول بعد تاريخ حافل بالصور الناصعة. لكن ماذا عن المرحلة المقبلة؟ سؤال قد يجيب عنه الوزير نفسه في إطلالة إعلامية له عبر الشاشة الرسمية نفسها الأربعاء المقبل.