IMLebanon

الوطنُ مَطعوناً بكذبةٍ بَلْقاء

بقلم الدكتور جورج شبلي:

إذا كان سلوكُ البعضِ مِمَّن يدّعون، زوراً، التّعاطيَ في الشأنِ الوطنيّ، لا يعكسُ، منهم، سوى شراسةِ الكَذب، فمن الطّبيعيّ أن يرتدَّ هذا الكذبُ على صانِعِهِ، استناداً الى ما قالَه ابنُ المُعتَزِ : ” إنّ ميزانَ العدلِ المُتَشَبِّثَ بالحقّ، لا يغفو حتى يأخذَ الحقُّ مجراه، ويُجازى المُستبدُّ الفاسدُ الذي يطعنُ الحقيقةَ بخنجرِ الكَذب…”.

يطالعُنا بعضٌ من الذينَ تربّعوا على كرسيِّ السلطةِ، أكثرَ من عَقدَين، وتجسّدَ روحُ الشرِّ فيهم لأنّهم حمَّلوا الوطنَ وناسَهُ ما شَنُعَ من عذاباتٍ سَفَكَت حقوقَ الشّعبِ، وأوصلَتِ البلادَ الى جهنّم، يُطالِعُنا هؤلاءِ، اليوم، بقوالبَ خطابيّةٍ يَصبُّون فيها مَطالبَ تنتحلُ صفةَ الوطنيّةِ، وهي شَعبويّةٌ، كاذِبة، تُتقِنُ، بشكلِها، إثارةَ الإنفعالِ اللّاواعي، كدِهانٍ لَمّاعٍ لا يلبثُ أن يصيرَ باهِتاً عندَ أوّلِ زَخَّة، ويُفضَحَ، بالتالي، ” جِنزارُهم “.

إنّ المَطالبَ التي ينادي بها هؤلاءِ المُدَّعون النّزاهةَ، وهم منها بَراء، هي تطبيقُ مندرحاتِ اتّفاقِ الطّائفِ، والتي تناساها الحاكمون والقيِّمونَ، وهم منهم، وأدخلوها سردابَ النِّسيان، منذُ تسعينيّاتِ القرنِ الماضي وحتى السّاعة. وأبرزُ المَطالبِ : تنفيذُ اللّامركزيةِ الموسَّعَة، إداريّاً وماليّاً وتربويّاً… وإنشاءُ الصّندوق الإئتمانيّ لتغطيةِ مشاريعِ المؤسّساتِ الوهميّة، واستكمالُ التّحقيقِ في الفسادِ والسّرقات، خصوصاً في الوزاراتِ التي تولّاها هؤلاءِ المُتَنَفِّذون، ومَنْ بعدَهم من أتباعِهم الميامين… وسوى ذلك من هرطقاتٍ لا تمرُّ على ذَوي العقول.

مع تُرَّهاتِ هؤلاءِ السّاقطين، بِتنا نقتنعُ بأنّ الشّيطانَ ليسَ صورةً رمزيّةً للباطلِ، والنّجاسةِ، والخُبث… إنّما يمكنُهُ أن يقترنَ بِجَسَد، ليصبحَ هذا الجسدُ المسكنَ المُريحَ للشّيطانِ نفسِه. ومن القواسمِ المشتركةِ بين الشّيطانِ وذلك الجسدِ الذي يُدعى مسؤولاً، أنّ الإثنَين يَدّعيانِ التَّأَلُّه، ويسيطرانِ على أعوانِهما، وأتباعِهما، ليبقى طُغيانُهما مُستداماً. وهذا الطّغيانُ الذي لم تنتهِ رحلتُهُ الطَّوفانيّةُ، وأَنبَتَ شَوكاً، ووجعاً، ودماراً، وعذاباً في كلِّ مفصلٍ، عندَنا، في الحَجَرِ والبشر، جعلَ لبنانَ يتبنّى ما قالَه أنطون غطّاس كرم : ” أنا في أَشَدِّ عذابي، عندما يكثرُ المُعَذَّبون “.

في الواقعِ، ثَمَّةَ قرارٌ دائمٌ وضمنيٌّ في كلِّ سلوكِ الكاذِبينَ من مسؤولي الدولةِ التي حوّلوها أطلالاً، وهو إعطاءُ صَكِّ براءةٍ للشّيطان، ليردَّ الشّيطانُ لهمُ ” الإِجر “، ويبقى يعبثُ بحياةِ الوطنِ، توتُّراً، وتَخَبُّطاً، وقَلقاً، وانهياراً، فيبقى النّاسُ منهَمِكينَ باللُّقمةِ، والسّلامةِ، والعافية، تارِكينَ السّاحةَ للفاسدينَ النّاهبين الذين يستغلّونَ التَفَسّخَ، والخوفَ، لينحروا الخيرَ، والحقَّ، والقانون، ويصادروا مقوّماتِ البلادِ وقرارَ السّلطة، باحِثين عن ترسيخٍ أَبديٍّ لهيمنتِهم. وهذا، إِن دلَّ على شيء، فعلى وحدةِ التّرابطِ بين الشّيطانِ وشُخوصِ المَناصِب، بمعنى أنّ العلاقةَ بينَ الطَّرَفَينِ ليسَت أمراً شكليّاً، صُوَريّاً، لأنّ أهدافَهما واحدة، وهي تَركُ كلِّ شيءٍ مُلَوَّثاً، بحيثُ لا يَحتَكُّ التلوّثُ بشيءٍ طاهرٍ، خَيِّرٍ، حتى يلوِّثَهُ، فيتوسَّعُ التّلويثُ ليرسمَ لبنانَ مملكةً ذَميمةً للشّيطان.

لقد مُنِيَ البلدُ بطغمةٍ من الجزّارينَ البرابرة، شَحَنَتهمُ العتمةُ بالحقدِ، والإِثم، والغدرِ، وانحطاطِ السّلوك، سمحوا للفسادِ بِمَدِّ يدِهِ والطَّعنِ بخنجرِه، ورسموا ظروفاً أدّت الى انتقاماتٍ، وسَفكِ دماء، وثأر، وسيادةِ روحِ الشرّ، ما تركَ الوطنَ لِقَدَرٍ عاتٍ، وألمٍ مُحَطِّم. والأَسفُ أنّ هذا الواقعَ الرّديءَ قد شغلَ حيِّزاً بارزاً من زمنِ لبنانَ السياسيّ، والحضاريّ، فبدلاً من اغتباطِ البلادِ بالرَّفَهِ، والصَّفاءِ، والحريّة، والإنفتاحِ على ثقافاتِ النّاس، سادَ البلادَ عباقرةُ الشّرورِ، سماسرةُ السّرقةِ، الذين نهبوا، وكدَّسوا الثّروات، وداسوا القِيَمَ الوطنيةَ والمبادئَ الخُلقيّة، ومارسوا الظّلمَ والتّنكيل، فباتَ الشّقاءُ خبزَ النّاسِ اليوميّ، تَراهم مُغتَسِلين بالدَّمعِ، وماضينَ الى المقابر.

لقد أَتقنَ الكاذبونَ من جماعةِ العصاباتِ المعروفةِ نظريّاتٍ تنجيميّةً شوّهَت بعضَ الأذهانِ التي ضَيَّعَت بوصلةَ السَوِيِّ من المواقف، وراحَ أصحابُها يُصفِّقُون، ويُزايدُون، ويُساجِلُون، بتَفَسُّخٍ فكريّ، وهلهلةٍ فَهميّة، مُعتَبرين تخرّصاتِ زعمائِهم نصوصاً مُنزَلَة، والطّامةُ الكبرى أنّ المُصَفِقّينَ البُلَهاءَ يركِّبونَ لِساناً طويلاً، ويشوِّهونَ وُجوهَهم بقَطعِ آذانِهم مُتَخَلِّينَ عن نِعمةِ الإصغاء.

وبعد، يمكنُ الجَزمُ بأنّ لبنانَ مُصابٌ بِوُكَلاءَ بَلَدِيّينَ، وعُمَلاء، يوهمونَ النّاسَ بغِيرتِهم الوطنيّة، وهم كاذبون، منافِقون، أفّاكون، مُراوِغون، وأَبعَدُ ما يكونون عن الولاءِ الصّحيح، وليسوا، في الحقيقةِ، سوى نَكبَةِ الوطنِ الشَّنيعة.